أنت تستهل كتابك بقصيدة بلغ من براعة استهلالها أن وقفت بالدار، وبكيتها مؤذنة باندثار، وشببت فيها بعروس أفكار، كل ذلك في اتساق وفي آن، وكأروع ما ينوح على منازل القلوب صب ولهان!
أي سحر هذا الذي استحوذ عليك من مصحة حلوان؟ وأية فتنة تلك التي تتجلى في استهواء المصحة للأطباء الأدباء: على ما هو معروف من هوايتك، وما وصفت من هواية الدكتور (برناند) مدير المصحة الأول. وإن شئت مزيدا فإني لأذكر - وإن بعد العهد - غدوات لي إلى المصحة وروحات، كنت أعود بها، وأنا بعد طالب طب، زميلا فاضلا لي كان ثمة ما يستشفي، وكان هو أيضاً يهوى الأدب وما يزال، وقد أبرأته المصحة بمنة الله، فلم يكد يتم دراسته حتى التحق بها ضمن من تتابعوا عليها ممن سميت من أطباء. ولعل سمعت عن أطباء غيره بمثل قصته، وعجيب أن تترادف الأمثلة بهذه الظاهرة في جانب الاطباء، وأن يقابلها في جانب المرضى ما يؤكدها بما هو متواتر مشهور: من تفزز حسهم وحدة خيالهم، وسطوة مشاعرهم وغرائزهم، حتى ليكثر بينهم الموهوبون بالفنون، على ما ألمعت إليه في كتابك، وما حفلت به روائع القصص وأفتن فيه كتابها المبدعون.
على أنني رأيتك، يا صديقي، أوشكت تتنصل في قصيدتك من هوايتك الأدب، فتقول إنك آثرت على يراعتك مبضعك ومسماعك، كأنما أصبح الأدب للأطباء في هذا البلد تهمة تدفع، وزلة يعتذر منها، وانه في سائر بلاد الله لمحمدة تذاع ومفخرة يشاد بها - تنبئ عن ذلك مطابعهم - فما تكاد تخرج إلى عالم الأدب كتابا لطبيب حتى تتلقفه الأيدي فلا يساعفها منه تلاحق الطبعات. ألا فهون عليك، يا صديقي، تحرجك من الأدب، ولا تولع منه بفرط إشفاق: وخذ بنا في تلك الظاهرة التي لفتك - وما أخالك إلا كنت ملتفتا إليها - فحض فيها بالاستقصاء والاستقراء عالما طبيبا، وبالمنظوم والمنثور شاعرا أدبيا، فما حشدت لتجلية هذه الظاهرة مواهب كمواهبك، ولا ظروف كظروفك، وإن تجليتها لفتح طبي وأدبي لا يتعلق به إلا من كان في همتك، وفي الحق إنك لها!
ولقد اصطرعت في قصة مصحتك من شخصيتك شعب ثلاث: نفحتك الشاعرية، وذهنيتك العلمية، وصفة عملك الرسمية، وفي النطاق الذي قسرك عليه هدفك، لقد استطعت ان تبلغ بهذه الشعب في اصطراعها حد الابداع، وكانما قدر للداء الذي أدرت حوله موضوعك ان