ذلك ما يكون منه بين يدي أبيه حين يدعوه إلى تلاوة قصيدة من شعر بوشكين أو غيره من الشعراء، أو تلاوة أقصوصة من كتاب أو من ذاكرته أو حين يناقشه في دروسه ليعلم مبلغ فهمه.
وكان شغفه بالموسيقى عظيما يتفتح لها قلبه وتنفعل لها نفسه ويبتهج خاطره إذا سمع لحناً وانشغل غيره عنه فهو مقبل عليه بقلبه ولبه كأنه مسحور به لا يكاد يعي دونه شيئاً.
ويحب ليو الناس جميعاً لا يضمر سوءاً لأحد، ولا يتجهم لأحد، ويكره أن يرى شخصاً يتألم أو تمشي في وجهه كدرة الهم كما يكره أن يعبس أحدهم في وجه صاحبه أو يتكره له أو يتجهمه بالقول، فالصفا والمحبة والمودة من خصائص طبعه ومقومات خلقه
غلام نابه
تمكنت من نفس الصبي روح المحبة للناس جميعاً، ولسوف تتوثق على الأيام وتزداد فيكون لها أثرها البعيد في تكوين آراء الكاتب العظيم في غد، وفي توجيه روحه وتحديد مسلكه في مواطن كثيرة من مواقف حياته.
وكان يحب الطفل فيمن أحب في طفولته كبيرة الخدم العجوز التي لبثت من عمرها في القصر سنين طويلة لا يدرك مدى طولها، والتي تقص أجمل القصص عن أجداده وأحداث أسرته وتلاعبه وتضاحكه كلما ذهب إليها أو كلما لقيته في إحدى ردهات القصر أو حجراته، وتخبئ له الحلوى في ثيابها لتلاقيه بها أو تفتح له خزانتها ليأخذ منها ما يحب؛ وكان كذلك يحب كبير خدم المائدة لأنه يهش له دائماً ويظهر المودة والعطف؛ والحق أنه كان يحب الخدم جميعاً وإنما يختص من هم اكثر تودداً أليه. دخل يوماً على العمة تاتيانا يشكو إليها أنه رأى منظراً كدره وآلمه، وذلك أنه شاهد أحد الفلاحين يساق إلى حظيرة حيث أوثقه رئيسه وضربه، ولما سألته عمته لم لم يحل بينه وبين الضرب أطرق في خجل ولم يحر جواباً، وكأنما يزداد ألماً ألا يستطيع أن يتدارك ما فاته.
وبينما كان أفراد الأسرة كبارهم وصغارهم في الثوى الكبير ذات ليلة من ليالي الشتاء أشار الكونت نيقولا رب الأسرة بسبابته إلى الحجرة المقابلة وكانت مفتوحة، فوقعت أعين الجالسين على منظر أثار ضحكهم ودهشتهم فقد عكست المرآة فيها صورة أحد الخدم يمشي على أطراف أصابعه، وما زال حتى بلغ الصندوق الطباق فسرق منه قدراً وانصرف،