إليهم نظرة الاحترام الشديد وهو صنيع أحفظه لمن قاموا على تربيتي، ولئن كان بين هؤلاء من يعوزه الإخلاص أو من قضى فيما سلف أياما في حالة من الضعف والادعاء فإن غايتهم في الحياة كانت على ما يبدو من سخفها في الواقع بالغة السمو؛ حتى إنه ليسرني أني تعلمت في طفولتي على غير وعي مني ما وصلوا إليه بأعمالهم من علو، لقد صنعوا ما تحدث عنه ماركس اورليوس حين قال:(ليس هناك أسمى من أن يتحمل المرء الازدراء من أجل أن يحيا حياة صالحة طيبة) أن الطموح الإنساني إلى المجد والعظمة أمر لا يمكن تجنبه وهو كذلك بالغ الضرر إذ أنه يفسد كل عمل حميد، فلا يسع المرء إلا العطف على أولئك الذين لا يقتصرون على بذل جهدهم لتجنب أن يحمدوا فحسب بل ويتعرضون فوق ذلك للاحتقار. . .
ومما كان يبهج نفس الصبي ويحبب إليه الحياة ما كانت تحتشد له الأسرة من مظاهر الفرح في أعيادها وعلى الأخص عيد الميلاد، فكانت تشيع البهجة في البيت كله فترى دلائلها في كل وجه وتحس روحها في كل ناحية، فرب الأسرة وسيداتها وأبناؤها وجميع من في القصر من خدم يتبادلون المحبة والمودة ويبدون سعداء في ثيابهم الجديدة ويستمتعون بما طاب من الطعام والشراب، حتى الفلاحين ينالهم حظ من هذا الفرح فتطيب نفوسهم وهذا ما ينشرح له صدر الصبي.
وكان خروجه إلى الغابة للصيد مع أبيه واخوته في العربات الجميلة أو على ظهور الخيل المسومة الفخمة يحيط بهم رهط من الأتباع وعدد من كلاب الصيد مما يملأ قلب الصبي سروراً وبهجة، وكثيراً ما كان يبهجه كذلك الخروج إلى الغابة لغير الصيد في صحبة العمة تاتيانا أو في صحبة جدته أو غيرهما من المربين فيرتع ويلعب ويقتطف ما شاء من الزهر، ويستمع إلى القصص حتى يعود إلى البيت وهو يطفر كما يطفر العصفور من فرط المرح. وفي ليالي الشتاء كان تحلق الأسرة حول الموقد والاستماع إلى الموسيقى أو القصص الممتعة، وتبادل العطف بين الكبار والصغار وبين بعضهم مع بعض مما يحبه الصبي ويأنس به ويحرص كل الحرص على شهوده. . .
وليس ثمة إلا حجرة الدراسة تخلو من البهجة ويلقي فيها من درسه عنتاً ورهقاً، على أن عطف معلمة عليه يخفف عنه، ورغبته في أن يرقي بنفسه ويكتسب من دواعي الفخر ما