تحميها النظم والقوانين، وقد يكفلها الدستور، وتحميها الصحافة. ولكن خط الدفاع الأول والأخير لها هو القضاء والمحاماة. فالقضاء هو فيصل التفرقة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد. هو ملاذ المظلوم ممن يتحيفهم طغيان الأقوياء والحكام. والمحاماة هي لسان الحرية والحق المدوي في ساحات القضاء، والمناضل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فالقضاء والمحاماة صنوان متلازمان. يتعاونان على أداء مهمة قدسية سامية وهي استخلاص الحق وكفالة الحرية.
عرض لنا المؤلف في الجزء الأول من كتابه صورة حية من الهلباوي المحامي، والهلباوي الرجل، والهلباوي الخطيب. فحلل شخصيته أدق تحليل، وتابعه منذ نشأته إلى أن انتظم في سلك المحاماة إلى أن ظهرت مواهبه فيها وذاعت شهرته في أرجاء البلاد بمرافعاته في القضايا الهامة، وعدد أشهر القضايا التي ترافع فيها في مختلف العهود. وأبرز فضائله في المحاماة ونزاهته فيها إلى جانب عبقريته كمحام قدير، وأبان للقارئ كيف كان يحضر قضاياه، وكيف كان يهاجم ويدافع، وكيف كان يسترعي الأنظار في مرافعاته، وكيف كان يستهدف لغضب ذوي السلطان في أداء واجبه
وعني على الأخص بالقضايا الوطنية التي ترافع فيها عن الحرية وحملاته الصادقة على خصومها ومضطهديها. وأفاض المؤلف في هذا الجانب من حياة الهلباوي، ولا غرو فهو الجانب الذي يضفي عليه هالة من المجد وخلود الذكر.
وأعجبني من المؤلف الأديب انه استثنى من الإشادة بمواقفه مرافعته كمدع عام في قضية (دنشواي) فلم يدافع عن بطله فيها واقتصر على التماس (الظروف المخففة) له حتى عزى موقفه فيها إلى سوء الحظ. وفي الحق أن قبوله المرافعة عن الاتهام في هذه القضية كان سقطة كبيرة من المحامي الكبير؛ لم تنسها له الأمة طول حياته ولا يلومها منصف على ذلك بل هو دليل على تقدم الوعي الوطني فيها. لأن التساهل بازاء أمثال هذه السقطات يغري بتكرارها.
صور لنا المؤلف حيات الهلباوي في كل نواحيها، صورها بلغة مختارة ممتازة، وفي الحق أن لأسلوبه وتعبيراته طابعا أدبيا بليغا، وفيه أناقة وفيه جاذبية، وفيه عمق في المعاني والأفكار