أبدا. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقى يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثه أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلانا لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلانا في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه، أو أنبه على زي لا يليق بطالب العلم اتخذه. أو محل لا يحسن به حله، أو صاحب لا يدله على الله صاحبه، فيبلغ منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعا إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولا والبلاغة ثانيا في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، تتخللها مواعظه العامة، وتوجيهاته الناس، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات العامة يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعا متواضعا كأنه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يزرؤه شيئا من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين هو الداعي إلى الجهاد، وهو قائد القواد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرءوا عليه ودونه أهل البلد يفدونه بأنفسهم وأهليهم.
أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالا أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهدية من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ