الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كد يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصا عليها، وخوفا من زوالها.
وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهنا، وأطيبهم نفسا، وأشدهم نشاطا.
ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريبا منها، وكانت حياتهم علما وعملا، ومنطقا وخلقا، وكانوا كلهم يحدثونا عن الأزهر وما فيه، حتى حبب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرفا من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة ١٩٢٨ رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا. ثم لما عدت سنة ١٩٤٥، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجدا خاليا، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقي وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إلي من عهود الحب، وليالي الوصال، لأنها لذة الهوى وهو حلاوة الإيمان، ولأن ذكراه ذخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومعين اليقين لي