وأرهف ليو أذنيه ودار بعينيه يسمع ويرى، فكم كره مرآى الحانوطية على مقربه من البيت في ملابسهم السوداء، وكم بث في نفسه الخوف رؤية التابوت بين أيديهم ووجوههم كئيبة عابسة من أثر ما يتكلفونه من الحزن؛ على أنه يطيب نفساً بما يشاهد من مظاهر العطف عليه وعلى أخوته وبما يسمع من عبارات الرثاء لهم والإشفاق عليهم وإن كان ذلك يزيد إحساسه باليتم؛ ولقد تندت عيناه ذات مره متأثرة بكلمة عطف سمعها من سيده إذ قالت لجارتها (إنهم اليوم أيتام كل اليتم فقد مات أبوهم منذ قليل، وهاهي ذي جدتهم كذلك يأخذها الموت).
وينظر الصبي إلى حلته السوداء المخططة الحوافي بخيوط بيضاء وهو يرتديها حداداً على فقد جدته وقد صنعت لهذا الغرض خاصة ويعجبه منظره في هذه الحلة فينسى بعض ما يمسه من حزن.
وللغلام في هذه السن الباكرة اشتغال بما يعد الاشتغال به من أعجب الأمور ممن كانوا في مثل سنه، وذلك هو نظره في الدين ومسائله، ولندع تولستوي نفسه يتحدث عن ذلك قال في مستهل كتابه (اعترافاتي) إني اذكر كيف زارنا ذات يوم من أيام الآحاد فيفي الحادية عشره من عمري غلام يدعى فالرمير موليتين كان في إحدى المدارس الابتدائية وراح يقص علينا ما سماه أحدث الطرائف من الأنباء ألا وهو كشف اتفق وقوعه في مدرسته، ومؤدى ذلك الكشف إنه ليس لهذا العالم إله، وأن كل ما قلناه عنه إن هو إلا محض اختراع. وإني لأذكر مبلغ ما داخل اخوتي
من سرور عند سماع ذلك، لقد دعوني إلى مجلسهم واذكر أننا جميعا شعرنا شعور النشوة لهذه الانباء، وتلقيناها كأمر سار ممتع ممكن الحدوث كل الإمكان).
وعرف الغلام منذ حداثته بقوته البدنية وحيوتيه المتوثبه، تبين ذلك من حادثة تقصها أخته ومؤداها أن أخاها انزل من إحدى العربات ذات مرة وقد توقفت عن السير لأمر ما فظل ماشيا حتى أوشكت العربة أن تدركه فاخذ يعدو عدوا سريعا كيلا تدركه واخوته في العربة يعجبون من سرعة عدوه وطول نفسه؛ ولم ينقطع نفسه إلا بعد ميلين فصعد إلى العربة وهو يلهث ولكنه يحاول أن يخفي تعبه؛ ولسوف تلازمه هذه القوة البدنية وهذه الحيوية على الرغم مما ينتابه أحيانا من أسقام وآلام حتى يطويه الموت بعد أن يجاوز الثمانين.