للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ونلاحظ أن النفس الراضية المطمئنة قد تلتوي على الكاتب، وتجهده عند الإعراب والتبيين، وتستهلك ملكاته النابهة، وأدواته القوية. أما الميول المصطدمة والأهواء المتعاكسة، فهي تظهر في يسر وسهولة، ولا تستلزم عبقرية عالية أو مبيناً كبيراً. ويرجع هذا إلى أن النفس الراضية المطمئنة، لا تتطلع لغير حاضرها ولا ترغب إلا في هدوئها وراحتها، وهي إنما تنطوي على مشاعر حلوة صافية لا سبيل إلى الخلوص إليها بلفظ أو كلام، وحسبها من ذاتها أن تستمتع بما تحس، وتتملى ما تشعر، وتذوق ما تحلم! ولكن الميول والأهواء إذ ترتطم وتتعاكس تثير ألف خاطرة ولاعجة، من ندامة على الماضي وأمل في المستقبل، وخوف من المصير، وكلها هواجس يفطن لها الكاتب الصغير، بله الألمعي القدير، ثم يبرزها مخطوطة واضحة على الطرس. . .

مظهر الألم صوت ملجلج، ووجه أغبر، ورعشة باليد، ودمعة في المحجر. فالإعراب عنه بلفظ قريب لا لبس فيه ولا غموض إنما يحتاج إلى عقل خصب يتأمل وجه الألم الذي يتحسسه ويدرك قيمته وأثره، ويعرف أين يتحد مع غيره من العواطف، ومتى يختلف ثم يعرضه تاماً صحيحاً غير منقوص ولا مشوه، وكلما كان التأمل العقلي كثيفاً نافذاً كان الألم أكثر وضوحاً وأبهر لوناً وأدق تعبيراً.

تلكم صفحات الألم الباكي فاقرأوها بإمعان، وفتشوا فيها عن القلب المنفطر، وتبينوا النفس المعذبة، ألستم توافقوننا على أن الأديب إنما اتخذ العقل مبضعاً يشق مطاوي القلب، ويسبر غور الضلوع، وينفذ إلى حقيقة البكاء ومصدر اللوعة؟!

ولقد حفظ التاريخ القديم فيما حفظ في ذاكرته الواعية رسائل طريفة انحدرت إلينا كاملة من شيشرون ومدام سيفينيه، وهي رسائل تفيض بالشكوى وتتنزى يأساً وألماً، كشف فيها الخطيب الروماني عن الحب الأبوي حين ماتت ابنته وذهبت إلى حيث لا رجعة لها، وأبانت المركيزة الفرنسية كيف تتوجع الأم الرؤوم حين تزوج ابنتها في الديار النائية والغربة الطويلة! وإن الآباء والأمهات ليبكون أبداً أولادهم وبناتهم عند الموت ووقت الفراق، ولكنهم لا يستطيعون وصف ما تكابد مهجهم من هموم وأشجان، وليس الذنب في ذلك ذنب قلوبهم المترعة المفعمة، وإنما هو ذنب عقولهم القاحلة، وألسنتهم البكيئة، وأقلامهم الجامدة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>