الفروض. فمن أين لهم أن حساب الله لا يوافق حالة التقدير، وأنه لابد أن يتناقض العدل إذا وجب الإيمان بالتقدير؟ ولماذا يمنعون على الله حساباً يتقابل فيه العدل والرحمة وصدق الجزاء والعقاب؟ وإذا وجب التسليم بأن الاختلاف في العالم المشهود هو الحالة التي يتحقق عليها الوجود، فلماذا يجزمون بأن هذه الحالة الواجبة ستناقض ما يجب في مسألة العدل والتوفيق بين العمل والمصير؟
لو كان المعتزلة ينكرون وجود الله لجاز أن يبطلوا الحكمة في الخلق كله وأن يبطلوا العدل والرحمة فيما هو ظاهر لنا وما هو محجوب عنا، ولكنهم يؤمنون بوجود الله ويؤمنون بوجوب الاختلاف بين الأشياء والأحياء. فلماذا تضيق قدرة الله عندهم عما يوافق الحكمة فيما يجهلون؟
وقصارى القول أن الحل الوحيد المستطاع لعقدة القضاء والقدر هو المقابلة بينها وبين العقد التي تنتهي إليها إذا أنكرنا القضاء والقدر. . . وأن العدل بمعنى المساواة الشاملة هو العدم بعينه، لأن المساواة الشاملة تنفي قيام الأشياء والأحياء. فلا بد من معنى للعدل الإلهي غير هذا المعنى، ولا تناقض إذا بين العدل والاختلاف في تركيب الموجودات، إذا وجب أن نفهمه فهما غير فهم المساواة في الأقدار والمساواة في التقدير.
ونحن نرى في حياتنا العملية أن الناس يرثون أخلاقهم من آبائهم وأمهاتهم، وينشئون في عاداتهم على نشأه بيئتهم وبيئات أسلافهم، ولكننا مع هذا لا نبطل التكليف والجزاء ولا نرى أنه عبث في غير جدوى، أو أن إلغاء القوانين والعقوبات مساو لبقائها وسريانها. . . فهناك نصيب من الحرية يكفي لقيام التكليف في المسائل الدنيوية، وهناك نصيب من الحرية يكفي للتوفيق بين العمل والجزاء في هذه الحياة القصيرة. فكيف بالحياة الأبدية التي تدبرها عناية الله ولا يحيط بها علم الإنسان؟
إن مسالة القضاء والقدر عقدة، ولكنها عقدة لا ينكرها المنكر إلا وقع فيما هو أعقد منها، ولاسيما المنكر الذي يؤمن بوجود الخالق القديم.
أما الذين يبطلون وجوده فإنهم يعطلون العقل جملة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، لأن تفسير العالم كله بالمصادفة العمياء لا يدع مجالاً للإشكال ولا للسؤال، وكل شيء جائز أو غير جائز. فقد استوى الجائز وغير الجائز على كل حال.