على أبسط صور النطق، مكونة من بعض أصوات أو مقاطع لا تبعد كثيراً عن لغات الأطفال في أوائل العام الثاني من ولادتهم ولغات بعض القبائل المتوحشة.
وقد التقط بعضهم أصوات أفراد من القرود على اسطوانات فوتوغرافية ثم أدارها أمام قرود من نفس النوع في حدائق الحيوانات فكانت تصغي إليهم باهتمام وتنبه وتبدي إشارات وحركات وتنطق بأصوات كأنها ترد عليها.
ومما يؤيد أيضاً أن النطق في الإنسان والحيوان ليس غريزياً وإنما هو مكتسب بالتقليد التجربة القديمة الآتية التي أجراها دين بارنجتون الإنكليزي ودونها في موسوعته الفلسفية التي ظهرت سنه ١٧٧٣ في الجزء وقد نقلناها من كتاب العالم البيولوجي الفرنسي فيلكس ليدانتك (العلم والشعور) طبع سنة ١٩١٦ صحيفة ١٨١ فقد أخذ بارنتجون عصافير صغيرة عقب ولادتها من نوع ونقلها إلى عش عصافير من نوع آخر يسمى فاقتبست تغريد هذه العصافير بطريق التقليد وظلت تغرده طيلة حياتها كأنها طبعت عليه إلى حد أنه وضعها بعد ذلك مع أفراد من نوعها فلم تستطع أن تجاريهم في تغريدهم الذي هو تغريد آبائها وأجدادها. ذلك لأن مخ العصافير المحدود يعجز عن وعي شيء جديد غير ما طبع فيه بطريق التقليد في مستهل حياة هذه الكائنات البسيطة.
وخلاصة القول إن النطق ليس بغرزي في البشر ولا هو قاصر عليهم وإنما هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت على بعض الحيوانات وتدرجت حتى وصلت إلى ما هي عليه في النوع الإنساني. كما أن اللغات ظاهرة اجتماعية
فالإنسان ليس بحيوان ناطق كما كانوا يعلموننا فيما مضى وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط.
وكل ما هنالك هو أن الإنسان حيوان ثرثار كثير النطق يحب أن يتكلم بلا انقطاع في مجتمعاته الخاصة والعامة، في كل مكان وزمان، يخلق المناسبات ليشبع شهوة الكلام، وإذا تقابل اثنان على غير سابق معرفة في القطار أو الترام مثلاً نراهما يتحدثان ولو في أتفه المواضيع كالجو والطقس. وإذا لم يجد الإنسان من يتحدث معه يظل يتكلم مع نفسه ويكرر مثلاً ما قاله أو ما يود أن يقوله إلى لغيره، وأحياناً يصحب هذا الحديث إشارات يبديها بيده على غير قصد تنم عما يدور في نفسه. وحتى في نومه لا يخلو من الكلام، وكثيراً ما يتفوه