قرأه يومئذ كتاب ألف ليلة وقد أثرت في خياله وحسه قصة (الأربعين لصاً) تأثيراً قوياً وكذلك فعلت قصة الأمير (قمر الزمان)؛ وقرأ الغلام شعر بوشكين وأعجب بقصيدته عن نابليون، وراقته قصة (الدجاجة السوداء) للكاتب الروسي بوجورولسكي؛ وقرأ الإنجيل وكم تأثر قلبه بقصة يوسف فأن أثرها فيه كان على حد قوله هائلا، ولم يزل بعد ذلك بسنين يصف ما أعجبه من وجازتها وبساطتها وصدقها، ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى أصبح مسحوراً بجان جاك روسو، وإنه من فرط تأثره به ليكاد ينسى كل شيء غيره، وقد بلغ افتتانه به أنه استبدل صورة له بما كان يضع فوق صدره من صليب، واقبل على اعترافاته وكتابيه (إميل) و (هلويز الجديدة) فقرأها مرة بعد مرهة، وكلما أعاد قراءتها ازداد حبه لها واشتد تأثره بها. قال بعد ذلك يصف هذا السحر (كانت صفحات كثيرة منه وثيقة الصلة بنفسي، حتى لقد خيل إلي أني أنا الذي كتبتها لا محالة).
ويمتلئ ذهن الفتى في السادسة عشرة بكثير من مسائل الفلسفة، بل إنه ليطمع أن يحل ألغاز هذا الوجود فيشغل نفسه بالنظر في خلود الروح ووظيفة الإنسان في هذا الكون وصلته به وإمكان وجود حياه أخرى إلى أمثالها من المعضلات والمسائل.
وينظر الفتى في نفسه فيصل إلى رأي، وذلك أن سعادة المرء لا تتوقف على العوامل الخارجية في ذاتها ولكن على صلة الإنسان بهذه العوامل، ومن ذلك مثلاً أن الإنسان إذا أخذ نفسه بالتقشف وتعود الآلام ألف شقاء العيش وآلامه فلن يشقى به ولن يألم منه وعلى ذلك فقد أخذ نفسه بألوان من العنف والشدة كأن يحمل بعض الكتب الثقيلة زمناً ويداه ممدودتان، وكان يضرب جسمه وقد تعرى بحبل حتى تدمع عيناه، ثم إنه يقنع نفسه بأن التفكير في الموت أمر لا محل له وللإنسان أن يستمتع بالساعة التي هو فيها فالموت أمر لابد منه والحياة أتفه من أن يعنى بها المرء قلبه، فليمرح الفتى ما وسعه المرح ولينصرف عن الدرس وليقبل على كل ما يلذه من طيبات الحياة خيرها وشرها وليقض وقته في قراءة القصص وأكل الحلوى. . .
ويحاول أن يتدسس إلى أعماق نفسه ليرى ماذا يجري في شعوره فيصل به الأمر إلى ما يقرب من الخبل، تجد ذلك في قوله (وكنت أفكر في أني أفكر فيما كنت فيه أفكر) وإنه ليستغرق في تفكيره هذا حتى ليأكل ما في يده ذات مره من ديدان كان أعدها طعماً للسمك