المخاوف على أخته الناشئة. . . وأرسل دعاء قلبه وصلاة نفسه إلى الفقيد الحبيب، وضرع إلى الله، وهو ذارف العين متدفق الوجد: يا رب! أنت بأختي الضعيفة اليتيمة أبر مني وأكرم!!
وها هو في بيته الجديد الذي كأن الوحشة تجثم عليه، ليس بين كتبه شيء من كتب (عوارف) أخته، ولا سبيل له إلى مناقشة (عوارف) في دروسها، ولا إلى الاستمتاع بإنشائها الذي تمليه خطرات صباها الباكر الطاهر، ولا رسومها التي تخرج غالباً على حظ من الإحسان. . . والصباح يسفر، فلا يرى ولا يسمع (عوارف) وهي تهيئ نفسها للمدرسة: تسوي شعرها وتجمع كراسات يومها، وتنظم حقيبتها، وتصيخ لأبواق السيارات حتى إذا بلغها صوت سيارة المدرسة، جرت إليها في خفة العصفورة أو في لطف القطاة، متبلجاً بالبشر وجهها الحبي. والمساء يأتي فلا يرى (صادق) عوارف تقبل بصفحتها الآلقة وصوتها الحلو عليه وعلى أمها، تحدثهما عن يومها، وتفيض خاصة في الثناء الذي تلقته من أساتذاتها وأستاذيها، حتى إذا ما عابثها وهون من شأن مادحيها ومدحهم بدا الغضب والخجل في انكسار طرفها وتناقض بشاشتها، فيصلح صادق تواً من لهجته، ويتجه إليها بكل ما في قلبه من تقدير لرشدها وحنان عليها، ويسكب على وجهها الصغير قبلاته، فتطمئن (عوارف) وتطيب نفساً، وتشرق في الحال بسمتها العذبة على ثغرها السعيد.
كل حالات (عوارف) يمثلها له الشوق، فهي لا تفتأ ماثلة أمام عينيه بل في طيات قلبه. . . وكأنما الآن خلال ضلوعه من فرط الشوق إليها جمرات تتقد.
ويقف صادق أمام (فاترينات) المتاجر في الإسكندرية، فلا يذر شيئاً يمكن أن يفيد أخته أو يسرها على أي وجه إلا اشتراه إنه يريد أن يلبسها النعمي، وإنه ليتمنى لو كان يقدر أن يحيكها من خيوط قلبه! وإنه ليشتري لها الحين بعد الحين مجموعات من الكتب، فإذا لم يلق جديداً يناسبها اشترى لها مصاحف، فإذا قال له البائع مندهشاً: كفى مصاحف! عندك الأستامبولي طبعات، وعندك القاهري أشكالا، وعندك التفاسير كلها، وعندك الكبير الحجم والوسيط والصغير، همس صادق لنفسه: نعم. . . ولكن ليتني أحشد في رحاب (عوارف) كل بركة وكل نعمة!!
وفي صبح من الصباح، وهو يفتح نافذته، التقت عينه فجأة بعين غادة في ربيع العمر،