قالوا تباكى بالدموع وما بكى ... بدم على عيش تصرم وانقضى
فأجبتهم هو من دمي لكنه ... لما تصعّد صار يقطر أبيضا
وإلى هنا تنحصر المشابهة في الدمع والدم وهما في بنية الإنسان وفي تركيب العيون.
إلا أنها لا تنحصر فيهما طويلاً حتى يعرض لحلها خليل ابن إيبك الصفدي شارح لامية العجم فيروي في كتابه (تشنيف السمع بانسكاب الدمع) أن الدمع يسودّ كما قال بعضهم:
وقائلة ما بال دمعك أسودا ... وجسمك مصفر وأنت نحيل
فقلت لها أفنى جفاؤك مدمعي ... وهذا سواد المقلتين يسيل
ويعجب الصفدي بالمعنى ولكنه يستضعف الشعر (كأنه عروس جليت في ثياب حداد). . . ثم ينتقل إلى الدمع الأخضر فيروي هذين البيتين:
وقائلة ما بال دمعك أخضرا ... فقلت لها: هل تفهمين إشارتي
ألم تعلمي أن الدموع تجففت ... فأجريتها يا محنتي من مرارتي
ويعود الصفدي فيعقب قائلاً: (وهذا المقطوع ركيك. وإنما الاستطراد اضطرني إلى ذلك. ولقائله عذر واضح لكونه دفع إلى مضيق هذا الجواب، وكنت قد كلفت نظم شئ في الدمع الأخضر فاتفق لي هذا المعنى فنظمته وهو:
يقول عذولي ما لدمعك أخضرا ... جرى في هوى ظبي غلا في نفاره
فقلت صفا دمعي وقابلت صدغه ... فأبصرب فيه لون آس عذاره
وتبرعت بالنظم في الدمع الأصفر فقلت:
وقائلة ما بال دمعك أصفرا ... فقلت لها ما حال عن أصل مائه
ولكن خدي أصفر من سقم الهوى ... فسال به والماء لون إنائه
وهكذا كانوا يفهمون الوصف على أنه مناسبة لاختلاق التشبيهات التي لا وجود لها في الحس ولا في الطبيعة، ولا يشبهون لتقريب المحسوسات إلى العاطفة والخيال.
فلما خلص الشعر من أوهاق الصناعة بطل هذا الاختلاق وأعقبته محاولة التشبيه للتقريب وصدق التمثيل. وهذه خطوة تقدم لاشك فيه. . . فلا يقدح في هذا التقدم أن يكون السابقون أبرع من اللاحقين في اصطياد التشبيهات وتمحل المناسبات. فإن الذي يعمد إلى التشبيه لأنه يحس ويتخيل خير من الذي يعمد إليه لأنه يعرض براعته في التلفيق والاختلاق، وإن