عرضت لهذا التطور في سياق الكلام على نهضة الشعر الحديث بعد هبوط الصناعة به إلى ذلك الحضيض. فبلغ من دهشة السامعين أن طالباً أزهرياً منهم ظن أنني وضعت هذه الشواهد من عندي لتمثيل تلك النزعة واستبعد أن يجد شاعر في نظم تلك السخافات. فأرضاني منه هذا الشك لأنه كان من أدل الدلائل على ارتقاء الأذواق وتطور الافهام. فما كان براعة يتسابق إليها الأدباء قبل بضعة قرون أصبح في زماننا هذا سخفاً لا يعقل أن يخطر على بال أديب ولا قارئ، وكفى بذلك دليلاً على نشأة الأدب من جديد بعد ذلك المسخ وذلك الانحدار.
ويحق لمن أراد أن يستزيد من تحقيق تلك الأعجوبة أن يعرف مرجعها في ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه، فإن كتاب (تشنيف السمع) قد طبع بمطبعة الموسوعات بشارع باب الخلق وليس هو بالمخطوط النادر الوجود
أما الروايات المطولة التي سميناها بالملاحم الاجتماعية فقد عرضنا لها في المحاضرة لنقول إنها لم تظهر في الأدب المصري لأنها تتوقف على قيام المشكلات الاجتماعية التي تدور عليها. وستظهر في حينها متى ظهرت موضوعاتها وظهر أبطالها وذوو (الشخصيات) التي تؤدي أدوارها في الحياة
وقد خطر لبعض السامعين أن يناقش هذا الرأي لأنه أخطأ فهم العنوان وأخطأ فهم التطبيق.
فقد حسب أن القصة التي تسمى بالملحمة وقف على موضوعات كموضوعات الإلياذة وما إليها، أو أنها مقصورة على معارك الحروب وبطولة القتال.
وليس لذلك مسوغ من أصل الكلمة ولا من تطبيقها في الروايات.
فإن الكلمة اليونانية لا تشير في أصلها إلى حرب ولا أسطورة إلهية. ولا تتجاوز معنى الأقصوصة أو الأنشودة.
وتطبيق هذا العنوان القديم لا يستلزم حصر الملحمة في الأساطير لأن رواية موتلي عن الجمهورية الهولندية تحسب من الملاحم وهي تدور على وقائع التاريخ.
وهو لا يستلزم حصر الملحمة في المعارك الحربية لأن (الكوميديا الإلهية) ملحمة وليست هي من روايات المعارك الحربية، ولو جاز الأخذ بالقشور لما جازت تسميتها بالكوميدية