للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التي تخص مصر والسودان فقد كذبوها أفحش الكذب، لا لأنهم يريدون الكذب على أمتهم البريطانية، كلا. بل لأنهم جهلوا كل الجهل طبيعة الشعب المصري السوداني، وخدعتهم الظواهر عن حقيقة النار المضطرمة في أحشاء مصر والسودان، منذ استيقن شعب مصر والسودان أن بريطانيا أمة من أخلاقها الغدر والوقيعة وإخلاف الوعد والتلوّن في ألفاظٍ من بهرج الكلام وزائفه

ونحن لن ننصب أنفسنا لإفهام هؤلاء القوم ما طبيعة شعب مصر والسودان، ولكنّا سنحدثهم عن مسألة المفاوضة نفسها كيف كان من أمرها، ولهم بعد ذلك أن يحكموا بما يشاءون، فإن إخراج الغرور من رأس المغرور أعسر من رد النور إلى عينَي الأكمه؛ ولاسيّما إذا كان غروراً بريطانياً متغطرساً.

ففي أوائل القرن الماضي قام في مصر فتى ينادي في جنبات هذا الوادي: (بلادي! بلادي!) فهبّت مصر والسودان مستجيبةً لهذا الداعي النبيل الصوت، الحبيب النداء، القويّ الإيمان. لقد كانت مصر والسودان هي التي تنادي مصر والسودان، فهي دمه، وهي أعصابه، وهي نفسه، وهي جنانه، وهي لسانه، وهي حقيقته التي صار بها هذا الفتى يدعى بين الناس (مصطفى كامل). ثم أوحت مصر والسودان إلى فتاها أن يقذف في وجه بريطانيا ذات البأس بكلمتها الخالدة: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأن حقيقة مصر والسودان المستقرّة في بيان هذا الفتى كانت تعلم من سرّ ضميرها أن هذا هو الحق، وأما كل شئٍ سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعروق وهي تبكي من فرط لهفتها وتخوّفها ومن فرط ما كانت تشعر به يومئذ من العجز الذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقّداً ونشاطاً وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيت عنه وجعلت دمعها شهادة الإيمان بحقه وحقها الذي أجراه الله على لسانه

ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاء برحمته وحكمته أن يجعل مصر والسودان لهم منبتاً ومباءةً كما جعلها منبتاً ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشاش الأرض وهمج الجو، وقامت بريطانيا تتعهد هذه الفئة وتغدوها وترضعها من درّها بغية أن تشتد فتكون سباعاً وجوارح وأعواناً لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتى خرج منها خلقٌ يعوي في وجه الفتى وينبح ويهرّ هريراً لا ينقطع، ولكن مصر والسودان أبت إلا فتاها فأطاعته

<<  <  ج:
ص:  >  >>