وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شئ غير نيلها وتربة هذا النيل.
ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الذي ردّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها:(بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، خرجت مصر والسودان حتى سباع بريطانيا وعواتها ونُبّاحها يبكون أيضاً، لأن في دمهم شيئاً من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادهم ومأتمها ونواحها.
بقيت مصر تذكر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفتت، حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعت الأصوات لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكت ناطق الحرب حتى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيّشها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة:(حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة) لم تهَب بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكر الذي ثملت بنشوته.
ثم كان شئٌ لا ندري كيف كان!!
كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، ولكنها اقتصرت يومئذ على ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول (الاستقلال التام)، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهوراً ثائراً مطالباً بحقه مستبسلاً في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها:(الاستقلال التام)، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء). فخما عندها كلمتان مترادفتان
وألحت بريطانيا في التقتيل والفتك والعدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأة على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو (الاستقلال التام)، ولم يكد يدور بخلدها شئ إلا هذا النداء وحده ليلاً ونهاراً وبكرة وعشية ويوماً بعد يوم، ولم يكن يجري في وهم الشعب الثائر المطالب بالحق أن أحداً سوف يقول: تعالي أفاوضكِ يا بريطانيا! فيحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دم هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعف حيلته.
ثم كان شئ لا ندري كيف كان!!
كان زعيم هذا الشعب الثائر (سعد زغلول)، وكان رجلاً شيخاً، ولكن ناهيك به من شيخ،