وكان خطيباً حسبك من خطيب، كان يسمع الهمهمة التي تدور في دم الشعب ولا تجد لها بياناً، فيصوغ لها بياناً من عنده ويلقي به إلى الشعب فإذا هو يسمع كل ما في ضميره مترجماً في ألفاظ حية تتردّد في أذنيه. وفُتن الشعب بسعدٍ لسانه الذي ينطق بأسراره التي تتحيّر في دمه ولا يعرف كيف يبين عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشده ويعبّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شباب بريطانيا الظافرة الطائشة السّكرى براح النصر.
ثم كان شئ الله يعلم كيف كان!!
فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائز بالثورة في طلب حقه المتهجّم على بريطانيا العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلب الحرية من قيوده وآصاره فتتلقاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاص الوحوش ذات المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم!! إذا بهذا الشعب المنادي بالاستقلال التام يسمع دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليماً له، ورجت لحكيمها الشيخ أن يرتدّ إليها باستقلالها التام. . .
كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان!!
ولكن بقيت في مصر والسودان بقية لم تزل تسمع صدى كلمات الفتى الأول، فهبت تصرخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام!! حذار حذارِ، وألحت في صراخها ولكن مات صوتها في دوي الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيراً وقف رجل يسخر من كلمة مصر الخالدة:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) سخريةً لاذعة ملففة في ثوب الدعابة المحببة إلى هذا الشعب منذ قديم الزمان، والذي يداعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياق الموت. وكانت هذه الدعابة أفعل من رصاص بريطانيا وحرابها ونذالتها جميعاً في قتل كلمة مصر والسودان:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، حتى صار من يقول بها معدوداً عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبله والملاحيس.
نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان!!
ولكن بقي شئٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسها، وجهله كل مفراحٍ طيّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن