المفاوضات ظلت تجري منذ أن بدأت إلى أن كانت سنة ١٩٣٦، والشعب يتبع المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملاً غير منقوص، وهو من ورائهم يدفعهم دفعاً رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعاً، فلو سألت كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضاً:(هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيراً؟) فهو قائل لك: (يا سيدي، يا ما جرّبنا) ثم يمضي لشأنه يائساً تكاد دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!
هكذا كانت مصر والسودان برغم المفاوضات الدائرة، وبرغم مطالبة الشعب مجتمعاً أحياناً بهذه المفاوضة. كانت الدماء تجري في الأبدان المصرية السودانية تهَمهم وتدمدم، ولكن الرجل الذي يفهم معنى هذه الهمهمة الخفية لم يكن موجوداً، وهي لا تستطيع العبارة عن نفسها بلسان ناطق مبين. وبقينا جميعاً ننظر، لأن عبارة أمثالنا لن تؤدّي إلى شئ، إذ لم يكن لأحدٍ يومئذٍ من قوة الاستجابة لنداء الدم المصري السوداني، ولا من استعداد الأبدان والعقول التي تجري فيها هذه الدماء، ما يجعل لكلمة مصر الخالدة (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) صدىً يتردد فيستجيب له الوادي كله كما استجاب للفتى الأول مصطفى كامل، وبقيت الأبدان العاقلة (والتي هي الشعب بأفراده) في ناحية، والدم الذي يجري في هذه الأبدان نفسها في ناحيةٍ أخرى - وجعل الله بأسنا بيننا، فكانت إرادة الله ولا رادّ لما أراد.
ثم كان شئٌ ونحن ندري كيف كان.
فقد سكنت زمجرة المدافع، وعجيج القنابل الذرية، وقام رجالٌ يريدون مفاوضة بريطانيا، ولكنهم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى سمعوا صوت الدم المصري والسوداني ينطق من كل ناحية (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) فتمت المعجزة التي كان كل امرئ يترقبها، وكان لمصر والسودان النصر بعد الهزيمة المنكرة الأولى، وظهرت كلمة الحق حتى صار أكفَر الناس بها هو أشدهم إيماناً، وأجودهم في سبيلها بروحه وحياته، وعادت مصر والسودان إلى حقيقتها المستكنّة في سرّ القلوب والدماء والأحشاء! (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء): كلمة حكيمة صريحةٌ قوية، ظاهرة المعنى، بيّنة الطريق، كريمة المنبت لأنها بنت مصر والسودان - لا يسخر بها بعد اليوم أحدٌ إلا كان دمه هو أول من يسخر منه ويزدريه ويلعنه