الناس وأكبادهم أو كأنها فم قبر مخروق يأخذ ولا يعطي إلا الشكل والفقد. . .
الأول عظيم بالطبع، عظيم بالوضع، يتوجه مجد الفعال العظيمة والمكرمات الخالدة، ولكنه يتواضع حتى يحس محدثه ومجالسه أنه أمام رحمة مجسمة خلفت إنساناً. . .
والثاني لا يحملك وجهه وعمله على إعطائه ما يليق بآدمي من احترام وائتناس، وإنما تجفل لمرآه أول ما تقع على عينك ظلاله وعلى وعيك أعماله، ولا يحملك ما يحاول أن يحيط به من زينة الثياب والرياش والأثاث البراق إلا على مقارنة قبح ذاته وصفاته بجمال ما يحيط به من الأثاث الجامد!
هذا الأول أسدى لنفسي معاني كثيرة من الخير، وما تملك نفسي إلا أن تسدي إليه الحب وتسجيل الذكر وتخليد الصورة في مثل هذه المناسبة، لأنه مرتفع عن مستوى الحاجة. . . وذاك الثاني أسدى لنفسي شراً كثيراً، وأقل ما أسديت إليه أنني كنت ألتمس المعاذير لقبح خلقه وهوان شأنه على معاشريه، وكنت أغضي عن ذلك رحمة له إذ لم يخلق نفسه، وأنا أرحم القبح ولكن لا أهواه كابن المعتز. ومع ذلك فقد كان حمقه معي أعظم مما مع غيري. . .
وتسأله لماذا يا فلان؟ فيخرس لسانه ويجيب وجهه بتعليل الطبع السائر على نهجه. . . ولقد أجاب لسانه مرة حين قلت له: إنني لا أطيق الشر فهلم معي إلى الخير. . . فقال: لن تستطيع أن تغير ما في القلوب بالأقوال. . .
فكانت هذه حكمته الوحيدة الخالدة. . .
هذا النوع من الناس هو الذي قد يحملك على جحود الخير والإيمان بالشر، إذ يحيل قلبك من هدوئه واطمئنانه إلى الثورة والتشكك واعتناق الشر وتحطيم المثل العليا، أو أنه على الأقل يجعلك تعتقد أن الشر عريق في الوجود عراقة الخير، كأنهما مخلوقان لإلهين مختلفين يحتربان ويصطرعان على تسيير دفة الدنيا، يديرها أحدهما إلى الأبيض ويديرها الآخر إلى الأسود. فيجب أن تطيع الثاني كالأول ويتسع قلبك له وتطاوع شيطانك فيه بحيث لا يحدك ضميرك ولا وجدان ساعة بُحران الشر واحتدام الضغينة فلكل وقت، فكن للشر بقلبك كما تكون للخير بقلبك!
هكذا يسمم هذا النوع من الناس نفسك بشزّة نفسه، كما يسمم الثعبان دمك بلسعة نابه