تبعث في النفوس شعور الرثاء لحالهم؟ أم أن مرد ذلك إلى عاطفة عرف بها منذ طفولته وهي أنه يحب أن يرى الناس جميعاً حوله سعداء؟ الحق أن الفتى ما كان ليستطيع أن يرى مظاهر البؤس من حوله ثم لا يتحرك لها قلبه الإنساني الرحيم، وكيف كان يطيق أن يسمع فيما سمع أن امرأة نحبها من الجهد، وأن المرض فتك بالناس فلا يستطيعون له دفعاً؛ وكيف كان يطيق أن يرى بعض الفلاحين يخرون على قدميه سجداً يسألونه القوت؛ لقد كان ذلك يؤلمه أشد الألم أو كما يقول (إن ذلك كان يؤلمني كما تؤلمني ذكرى جريمة ارتكبت لو يكفر عنها).
على أنه يعجب أشد العجب من إعراض الفلاحين عن إصلاحاته؛ وبألم إذ يرى في وجوههم الشك والإنكار والعناد، وإذ يسمع أنهم يصفون ما بنى لهم من أكواخ جديدة بأنها سجون وأنهم يرمون بالمدارس التي افتتحها لأبنائهم والتي كان يعلمهم فيها بنفسه أحياناً، فعندهم إن هذه المدارس تحرمهم من معاونة أبنائهم إياهم في أعمال الزراعة؛ ويقلب تولستوي كفيه حائراً من أمرهم، وفي نفسه شعور الغضب ومرارة الخيبة. . .
ولا يلبث اليأس أن يصرفه عما شرع فيه، فينصرف عنه مكرهاً لأنه كان شديد التعلق به، يدلنا على ذلك ما جاء في قصة كتبها بعد سنوات قليلة، هي القصة المسماة (صباح أحد الملوك) فقد صور فيها أميراً يحلم بأن يعلم الفلاحين ويسعدهم ويوفر لهم أقواتهم، ويصلح رذائلهم التي تنجم من الجهل والتعلق بالخرافات ويجعلهم يحبون الهدى والحق؛ وفي هذه القصة يترك الأمير الجامعة ليعود إلى القرية ويكتب إلى عمته برغبته في إصلاح حال الفلاحين في ضياعه قائلاً بعد أن يصف مبلغ بؤسهم:(أليس واجبي الواضح المقدس أن أعني بحال هذه الأنفس السبعمائة التي سوف يسألني الله عنها حساباً؛ ثم أليس من الإجرام أن أجري وراء أنماط من اللهو والطمع بينما أدعهم لمشايخ أو رؤساءهم عليهم خشن غلاظ؟ ولم أبحث في نواحي أخرى عما عسى أن يظهرني بمظهر الرجل النافع الخير في حين أن أمامي هذا الواجب الوضئ النبيل الذي أعرفه عن وثوق وخبرة؟).
ولم يكن يدور بخلده أن يجد من الفلاحين هذا الجمود، فما أشد ما كره ما كان فيه من جد وما أسرع ما أقبل على لهوه وعبثه، وقد نما إليه أن أخاه سيرجى يعيش مع غجرية مغنية عيشة مطلقة من كل قيد في ضيعته؛ فحبب إليه عبث أخيه أن يعود هو كذلك إلى عبثه،