للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بشفتيه على ثدي أمه وهو حين يفعل ذلك كأنه يلفظ حرف الميم الذي لا يمكن النطق به إلا بإطباق الشفتين على بعضهما. ثم يتقدم الطفل في السن والنطق قليلاً فيتوسع في ذلك اللفظ الطبيعي إلى (مم) يطلقها على الرضاع أولاً ثم على جميع أنواع الأغذية، وعلى والدته نفسها ويفرع منها (ماما).

وهذا عين ما حدث للإنسانية نفسها في أول عهدها بالنطق ولذلك نجد أن جميع شعوب العالم تعبر عن الأم (أي الوالدة) بألفاظ متشابهة في جميع اللغات تشترك في حرف الميم سالف الذكر.

وكانت اللفظة الواحدة في اللغات الأولى القديمة وفي اللغات المتأخرة الحديثة تدل على الاسم والفعل على اختلاف أزمته (الماضي والمضارع والأمر)، ولم تكن الضمائر وحروف الجر والنسبة والإضافة وغيرها قد ظهرت بعد. فكان الناس - وما زالوا في كثير من اللغات البسيطة إلى الآن - ينوعون معاني اللفظة الواحدة بإضافة لفظة أخرى إليها. فالصينيون مثلاً لخلو لغتهم من حرف الجر (في) يستعيضون عنه بلفظة (وسط) فيقولون (وسط مملكة) أي (في المملكة) ولأنهم لا يعرفون حرف الباء السببية يستعملون بدلها كلمة كاملة مستقلة. فعندما يريدون التعبير مثلاً عن معنى (قتل رجلاً بالعصا) يقولون (قتل رجلاً واستعمل عصا).

وتتقدم لغات البشر خطوة أخرى باستعمال الألفاظ الدالة على المحسوسات والأجسام المادية للتعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية فلا تشمل كثير من اللغات البسيطة القديمة والحديثة عل كلمة تدل على معنى الصلابة، ولهذا يستعمل المتكلمون بها لفظة (حجر) للتعبير عن ذلك المعنى كما فعل الناس في لغة إشاراتهم وكما يفعل الخرس الآن. ولا تشمل لغات أخرى على لفظة تؤدي معنى الطول فيعبرون عنه بلفظة (ساق)، وعن لفظة مستدير بقولهم (مثل القمر). ويستعمل العرب أحياناً لفظة (قلب) المادية للتعبير عن (وسط) فيقولون (قلب المدينة) بدلاً من (وسط المدينة) وذلك لأن القلب في وسط الجسم. ولفظة وسط نفسها تحولت في لغتنا العصرية من المعنى المادي ونعني به وسط الأجسام إلى معنى معنوي محض أي وسط غير الماديات وصارت تستعمل بمعنى بيئة.

وقد استطاع علماء نشوء اللغات وتطورها واشتقاقها أن يردوا معظم الألفاظ المستعملة الآن

<<  <  ج:
ص:  >  >>