للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الجند هم أفضل من يستفيد المرء من قربهم. . . أما عن السؤال الثالث فرأى جمع منهم أن أحق الأشياء بالرعاية هو العلم. . . ومال آخرون إلى إنه الحذق والبراعة في فنون الحرب والقتال. وارتأى بعضهم إنه الفناء في عبادة الله عز وجل وتأدية فروض الدين على أكمل وجه. . .

فلما استبان للملك أنهم لم يستقروا على رأي صائب راجح منع عنهم عطيته. . . وعقد في نفسه عازماً على أن يتوجه إلى ناسك ذاعت شهرته وطبقت حكمته كل أفق بعيد. . . يستلهمه النصيحة ويستوحيه المشورة. . . وكان ذلك الناسك يتعبد في جوف غابة لا يبرحها أبداً. . . ولا يلقى من الناس إلا الفقراء والمعوزين. فأحاط الملك نفسه بثوب بسيط، ليس عليه من ظواهر الملك شيئاً. . . وترجل عن جواده وخلف حرسه على مبعدة وانطلق وحده. . . فلما أدرك الناسك ألقاه يفلح الأرض أما صومعته. . . وحينما أبصره الناسك بادره بالتحية، وأثنى إلى فأسه يضرب بها أديم الأرض. . . فكانت الضربة التي يهوي بها فيقلب الترب تستنفد ما بقى في جسده من قوة، وتجعله يبهر من الإعياء وينهج من التعب. . . فقد كان شيخاً ضعيفاً وهنت عظامه ووهت قواه. . .!

فدنا الملك منه وأفصح له عما في نفسه قائلاً: (أيها الناسك الجليل. . . لقد أتيت إليك - عن نأي - أروم جوابك عن أسئلة ثلاثة: (أولهما: كيف يتاح لي أن أعلم خير الأوقات لأنجز خير الأعمال؟)، (وثانيهما: أي الناس أولى بالصحبة وأجدر بالاهتمام؟)، (وثالثهما: ما هي الأشياء التي تستوجب مني العناية وتستحق التفرغ لها؟). فأصغى الناسك إليه منصتاً، بيد أنه لم ينبس ببنت شفه جواباً. . . وبصق في راحتيه وعاد ينبش الأرض بفأسه وهو يفلحها من جديد. . . فارتفع صوت الملك - وقد لمح ما على الناسك من دلائل الضعف وظواهر الوهن: لقد بلغ التعب والإعياء منك مبلغاً. . . فناولني الفأس، أتولى عنك الإفلاح حيناً. . .!) فلما هوى الملك بالفأس إلى الأرض مرتين، رفع رأسه إلى الناسك، وسأله ثانية جواباً على ما بسطه له وصارحه به. . . فلم يتلفظ الناسك بشيء، بل مد ساعده إلى الملك يبتغي الفأس قائلاً: (استرح قليلاً، ودعني أوالي العمل برهة!) ولكن الملك رغب عن أن يعطيه الفأس، وعاد يحتفر الأرض.

تصرمت ساعات اليوم ومال ميزان النهار وتولى الضياء عن صفحة الكون. . . وراحت

<<  <  ج:
ص:  >  >>