وللنافذ حق في هذا النقد المتفقد عليه. ولا عذر للرصافي فيما يعاب من تبذله إلا إنه وارث من وراث مدرسة العباسيين في بغداد. وقد أطلعت تلك المدرسة أبا نواس والبحتري كما أطلعت الشريف وأبن المعتز. ولا تحسب أن أدباء العصر في العراق يعدون هاتين المدرستين في أسلوب النظم ووجهته. فمن جنح إلى مدرسة الشريف وأبن المعتز فهناك اللفظ الجزل والنمط الرفيع والغزل العفيف، ومن جنح إلى مدرسة أبي نواس فقد يجمح جماحه أو يتبعه في التمرد وخلع الربقة والرقبة في بعض الأمور. فيقف عند الثورة على القديم ولا يتطوح معه في الخلاعة والمجون. . . ولابد للمدرسة من الجناح المتطرف كما يقولون في لغة الحرب والسياسة، فكان الرصافي ذلك الجناح وعليه جناحه ولا مراء!
على أن الأستاذ طبانة قد أفلح ولا شك في إبراز محاسن الشاعر وتشويق القراء إلى استقصاء شعره في مظانه؛ فإن الشواهد التي أتى بها في سياق الترجمة إما حسنات أدبية تروق القارئ لما فيها من الظرف والبلاغة والسجايا المأثورة كقول الرصافي يخاطب وطنه:
يا موطناً لست منه في موادعة ... عش بعد موتى عيش الوادع الهاني
فكل من فيك تعنيني سعادتهم ... وكل أبنائك الأعداء إخواني
إن سرّك الدهر يوماً سرني، وإذا ... آذاك بالمزعجات الدهر آذاني
أو قوله في الهجاء:
سوّد الله منك يا شيخ وجهاً ... غش حتى باللحية السوداء
لو نتفنا من شعرها وغزلنا ... لنسجنا خمسين ثوب رياء
أو قوله في الرد على من يعيبون ظهور الفتاة على مسارح التمثيل:
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح ... تمثل حالي عزة وإباء
ولكن عاراً أن تزيا رجالكم ... على مسرح التمثيل زي نساء
فإن لم تكن الشواهد من هذا القبيل فهي مراجع تاريخية يهم القارئ أن يتابعها للوقوف على مناسباتها، وهي على الجملة مناسبات الشرق الحديث في معرض السياسة والاجتماع.
ولم يبرز الأستاذ طبانة فضائل الرصافي وكفى؛ بل هو قد أبرز من فضائل أهل العراق ما