للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

السيطرة الفكرية والرغبة في التحكم على مقادير الشعوب من شباك يطل علينا ويثير لنا الكثير من المشاكل. ولقد نظرنا إليها من الوجهة التي يرى بها رجل الفكر الغربي فلنجرب نظرة رجل الدين.

كانت إنطاكية مثل الإسكندرية ميداناً للتنازع بين الوثنية والمسيحية، ذلك التنازع الذي انتهى بانتصار الفكر السامي ممثلاً في تعاليم معلم الناصرة، ولكن إنطاكية فاقت الإسكندرية في ناحية أثرها في حياة المسيحية، فكلتا المدينتين أوتيت حظها من حياة الترف واللهو والخلاعة والتغاضي عن الفضيلة. ثم قامت في كل منها دعوة للخير والصلاح وترك الدنيا والابتهال إلى الله، ولكن النكبات المتتالية وخصوصاً الزلازل المدمرة جعلت أهلها في حيرة منها، وأخيراً قر رأيهم على أن يطلقوا على إنطاكية اسم (مدينة الله) وتحصنوا بالفضائل وجانبوا الرذائل وتقربوا بهذا لله زلفى؛ وكان أن عرفت مدينتهم وسط مدن العالم بأنها حازت سلطان الحياة الدينية، وإذا بكرسيها يتلألأ وسط كراسي ملكوت السماء، ويقول عنها الناس: ليس في المسيحية كلها بعد روما سوى إنطاكية الخالدة.

ولذلك لا تعجب إذا وجدت عدداً من رؤساء الطوائف المسيحية يضعها في المكان الأسمى من نعوته وألقابه الكهنوتية فيقول كل منهم إنه صاحب كرسي إنطاكية وسائر الشرق. وهم على حق في ذلك لأن أنوار المسيحية أشرقت على الأرض من هذه البقعة، وانتقلت من مواجهة إسرائيل إلى مواجهة الدنيا، وفي ذلك يقول القديس لوقا: (وكان الذين تبددوا من أجل الضيق قد اجتازوا فينيقية وقبرص وإنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود، ولكن قوماً منهم كانوا قبرصيين وقيرارتيين فهؤلاء لما قدموا إنطاكية أخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع).

ففي إنطاكية تحولت الدعوة إلى حركة عالمية. فهذا أثر من تأثير هذه البقعة الفريدة، التي كانت قبلة الدنيا ومجمع مدنية الشرق مع مدنية الغرب، ولو أدركتها المسيحية وهي في أبنا مجده وسطوتها؛ أي لو تقدمت قرنين من الزمن حينما كانت إنطاكية حاضرة سوريا وقد فاقت قرطاجنة وصور وصيدا، فالأغلب على الظن إن كانت تأخذ إنطاكية في عالم المسيحية مكان روما.

ويجمع المؤرخون على إن إنطاكية كانت مركزاً هاماً للدعوة المسيحية في القرن الرابع

<<  <  ج:
ص:  >  >>