زينتهن، ويتظرف في حديثه ويظهر أكثر ما يستطيع من مظاهر الارستقراطية والنبل، ولكنه سرعان ما ينصرف عن هذا إلى ما يوسوس به الشيطان من فجور وإثم يطفئ به ضرام بدنه القوي الذي ما يزال يلتهب من شهوة ويعود إليه تارة تخيله إنه محب وإنه أسير هوى غادة عرفها في موسكو هي الأميرة شرباتوث، وإن كانت هذه الغادة لتجهل كل الجهل ما تحدثه به نفسه من حب، ولا تفطن إلى ما يخيل إليه إنها بعثته في نفسه من عاطفة. . .
وكذلك تساوره أحياناً رغبته في الكمال، تلك الرغبة التي تسلطت عليه زمناً في قازان، ولكن الكمال هنا يتخذ منحنى جديداً غير منحنى الثقافة والمعرفة؛ فهو يريد اليوم أن يكون رجل مجتمعات، يشار إليه في المنتديات والصالونات، ويريد أن يكون حديث مجالس ينصت إله ذوو المكانة ويصفونه بأحسن أوصافهم من النبل والتهذيب والظرف واللباقة؛ ولكنه لا يستقر على هذا الاتجاه. وما هي إلا أن توسوس له أقل المغريات حتى يعود إلى مجونه وجنونه، ليعب منهما ما يشاء له شبابه ثم يعمد إلى دفتره فيثبت فيه ما يخالجه من ندم ومن تأنيب منه لنفسه؛ وهكذا يحيا الفتى في المدينتين حياة لا تختلف عن حياته في قازان إلا ربما يكون من إفراد في اللهو وإسراف في المال.
ولن يزال الفتى كالفراش الهائم يطير من زهرة إلى زهرة، ومن ثمرة إلى ثمرة، أو يقع على اللهب ليرتد عنه ثم يجذبه الضوء فينجذب إليه، ولا يجد ما يبثه خلجات شعوره ونوازع وجدانه إلا دفتر يومياته؛ كتب في هذا الدفتر سنة ١٨٥٠ يقول وقد كان في موسكو (إن هذه ثالث سنة لي أقضي شتاءها في موسكو دون أن أكون في منصب ما؛ هنا حيث أفضي حياة سخيفة لا غناء فيها، حياة فارغة لا تهدف إلى غرض؛ ولم أحي هذه الحياة لأن كل امرئ في موسكو يفعل مثلما أفعل، ولكن لأن مثل هذه الحياة هيأت لي أسباب المسرة).
وبلغت حاله من السوء في أواخر تلك السنة بما أسرف على نفسه من الميسر أن أصبح يطلب القليل من المال فلا يكاد يجده ولذلك فكر في أن يشغل منصباً يرتزق من وظيفته، واتجه إلى منصب مدير البريد في مدينة تولا؛ ولكنه لم يجد من ذوي النفوذ من أقربائه من أعانه على تحقيق هذا المطلب، كما لم يجد في نفسه المقدرة على أن يعمل عمل الموظفين فانصرف عن هذا المتجه. . .