ذهب يوماً إلى شيخ عظيم، ذي قلب سليم، فأصغى الشيخ لحديثه حتى عرف مكنون صدره، ثم قال: أيها الطائف في الأفلاك! اتخذ في الأرض مثواك. اغتربت عن المرج والصحراء فجاز فكرك آفاق السماء. يا طاوي السماء اسكن إلى الأرض قليلاً، ودع حقائق النجوم حيناً. لا أقول لك اهجر أصنامك، أنت كافر فكن جديراً بزنارك، يا أميناً على التهذيب القديم، لا تحقر دين آبائك الأولين. فإن في الألفة حياة الأمة، والكفر كذلك من أسباب الألفة. أنت ناقص حتى في الكفر، فلست أهلاً للطواف في حرم القلب. لقد بعدنا عن جادة التسليم، بعدت عن آذر وبعدت عن إبراهيم. قيسنا ليس هائماً بالمحمل، وهو في جنون العشق لم يكمل، ما جدوى الخيال الذي يطوي السماء، إن كان شمع الذاتية إلى انطفاء.
قال نهر الكنج يوماً لجبل همالة وهو يجري في سفحه: أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة، والمتخذ زناراً من الأنهار الجارية. جعلك الله نجيّ السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء هذا الوقار والرسوخ والرفعة، وقد سلبت رجلك الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج، وجوده من الاضطراب المتصل.
فلما سمع الجبل تعيير النهر، أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحته مرآتي، وأكننت مئات من مثله في صدري إن هذا التبختر زينة الفناء، من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء، قد غفلت عن مقامك، وفخرت بهلاكك، ياوليد الفلك الرفيع، خير منك الساحل الوضيع، جعلت نفسك قربان المحيط، ونثرت جوهر روحك لقاطع الطريق، كن ورداً في بستانك، خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم، كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء، وقد ضل وجودك في البحر الخضم، وصارت ذروتي مسجد الأنجم، عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة، احترقت بنار السعي الدائم، فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة وفي الحجارة نار، ليس للماء سبيل إلى هذه النار) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، وجاهد اللجة وحارب اليم لحياتك، كن جوهراً لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسمُ بنفسك وأسرع التسيار، وكن سحاباً يرمي البروق ومطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك، ويشكو ضيقه بإنعامك، ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويطرح نفسه أمام قدميك.