للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذات والموضوع إذن هما قطبا عالم الفكرة، وشطراه الضروريان. والذات هي (ذلك الذي يعرف كل شئ، وليس يعرفه شئ)، وهي لذلك حاملة الظواهر، وشرط كل ما يعرف أو يمكن أن يعرف شرط العالم كله، باعتباره فكرة. وكل منا هو هذا الحامل للعالم الظاهر، بجباله وأنهاره، ونجومه وأفلاكه؛ كل منا ذات، ولكن من حيث هو يعرف، لا من حيث هو معروف، أو موضوع معرفة. ذلك أننا لسنا محض عقول خالصة، وإنما نحن أبدان أيضا. والبدن موضوع بين الموضوعات، وخاضع لشروط وجودها (المكان والزمان والعلية)؛ وبما أن الزمان والمكان هما شرطا الكثرة أو التعدد، فأبداننا تتعدد؛ ولكن الذات لا تخضع لهذين الشرطين، لأنهما يتعلقان بالموضوعات أو المعروفات فقط ولكن يفترضان الذات العارفة مقدما؛ ولذا فالذات لا تتعدد؛ ولكنها ليست بعد واحدة؛ (إنما هي حاضرة - كاملة لا غير منقسمة - في كل كائن مدرك. ولذا فأي كائن مدرك خليق بأن يكون، مع الموضوع، عالم الفكرة كله، كأتم ما تكونه الملايين القائمة؛ ولكن لو اختفى هذا الكائن الواحد، إذن لاختفى العالم كله، بما هو فكرة) هذان الشطران إذن مقترنان، متضايفان، لا سبيل إلى فصل أحدهما عن الآخر كل منهما يحد صاحبه مباشرة، فحيث يبدأ الموضوع تنتهي الذات.

ومن الممكن اعتبار الزمان والمكان والعلية، التي تستقر في وعينا قبليا، وتكون الشكول العامة للعالم الموضوعي، الحد المشترك الذي تلتقي فيه الذات والموضوع. ولذلك نستطيع أن نكتشف هذه المبادئ إما من الموضوع (أو بعدياً) وإما من الذات (أو قبلياً). وقد جعل شوبنهاور مبدأ السبب الكافي - كما سبق القول - التعبير العام عن جميع معارفنا القبلية الخاصة. وبمقتضاه تسود الضرورة السببية جميع أنواع الفكر أو الموضوعات. فما من موضوع إلا وهو معين من جهة معين من جهة أخرى. فلا شئ مستقل، لا شئ حر، لا شئ مطلق، بل كل شئ نسبي، قائم بغيره، مفتقر إلى غيره، موجود لأن غيره موجود. إن عالم الظواهر خاضع لقوانين ضرورية صارمة، وكل هذه القوانين ترجع في النهاية إلى مبدأ السبب الكافي.

وقد شرح شوبنهاور هذا المبدأ، بأشكاله الأربعة، في رسالته الموسومة (بالجذر الرباعي لمبدأ السبب الكافي، وهي أطروحته للدكتوراه، ومجمل القول فيه أن هناك أربعة أصناف من الموضوعات وهي (المدركات الحسية) و (التصورات) و (العيانات الخالصة) و

<<  <  ج:
ص:  >  >>