ونحن لم نقل إن المدرسة الشوقية خلو من محاسنها ومزاياها، ولا قلنا إنها لم تشتمل على شيء غير النقائص والعيوب.
ولكننا قلنا إنها لم تحقق للشعر أشرف مقاصده وأرفع مزاياه، وعرضناها على المقاييس الخالدة التي لا سبيل إلى التشكيك فيها بحال من الأحوال، فلم يصدق عليها مقياس منها ولا حاول أحد أن يصحح لنا ما قسناه مخالفاً فيه مذهبنا في (التطبيق).
وهذه خلاصة تلك المقاييس التي ندع إنكارها لمن يستطيع إنكارها، أو ندع تطبيقها على خلاف رأينا لمن يشاء كما يشاء.
فالمقياس الأول أن الشعر قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لفظية أو صناعية.
فما من أمة على وجه الأرض إلا وهي تنظم الشعر على اختلاف اللغات والأوزان.
وهي لا تنظم الشعر لأنها تتكلم بهذه اللغة أو تلك، وتعرف هذا الضرب من العروض أو ذاك. ولكنها تنظمه لأنها كائنات إنسانية حية تجمعها كلها سليقة الإنسان ونوازع الحياة.
فأول مقياس للشعر الصادق الرفيع إنه يحتفظ بقيمته الكبرى إذا ترجم إلى جميع اللغات، لأنه يرجع إلى الطبيعة ولا يجعل مرجعه كله إلى أعاريض الأوزان أو موقع الألفاظ في الآذان.
نعم إن الموسيقية اللفظية مزية من مزايا الشعر في كل لغة من اللغات.
ولكنها إذا كانت هي مزيته الوحيدة؛ أو مزيته الكبرى التي لا ينهض بغيرها، فأول ما يفهم من ذلك إنه كلام منفصل من الطبيعة الإنسانية، وإنه صناعة محض وتلفيق من الألفاظ والأوزان، وليس من الشعر الإنساني الخالد في طراز رفيع.
والمقياس الثاني إن الشعر تعبير عن نفس صاحبه وإن كان وصفاً لغيره.
فإذا قرأت ديواناً كاملاً من الشعر وجب أن تعرف صاحبه وتتمثله في دخائل طبعه ونوازع سريرته وأطوار حياته.
وإذا تتبعت غزله - مثلاً - في أطوار تلك الحياة وجب أن تتمثل لك سمات حبه وسمات محبوبه في كل طور من تلك الأطوار.
فلا يكون الشعر تعبيراً عن نفس حية إذا كنت تجهل تلك النفس حين تقرأ ديوان صاحبها، ولا تستخرج لها من ديوانه ترجمة حياة داخلية لا يعوزها شيء غير الأرقام والأعلام.