ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كنت تقرأ غزل الشاعر كله من صباه إلى شيخوخته فلا ترى فيه فارقاً بين محبوب ومحبوب، ولا بين عاطفة وعاطفة، ولا بين شباب ومشيب.
ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كان صاحبه يزعم لك إنه معطيك صورة من الأحياء والجمادات وهي لا يعطيك صورة من نفسه.
وإنما هذا صناعة وفقر في نوازع الحياة؛ لا يبلغ بقائله من القوة أن يميزه (شخصاً كاملاً) بين غيره من شخوص الأحياء.
والمقياس الثالث للشعر الصادق أن القصيدة بنية حية أو (بنية عضوية) يقع كل جزء منها في موقعه الذي لا يغني فيه غيره، كما تتألف الأجسام من الجوارح والأعضاء.
فإذا عالجتها بالتقديم والتأخير ماتت كما يموت الجسم الحي الذي تضع قدميه في موضع رأسه أو رأسه في موضع قدميه.
أما إذا جاز لك أن تبعثرها شذر مذر ثم تعيدها في كل مرة على وضع جديد فهي إذن من عالم الجماد لا من عالم الأحياء. بل هي من عالم الجماد الذي لا فن فيه ولا تنسيق له ولا معنى لتركيبه. لأنك لا تستطيع أن تصنع هذا الصنيع بجماد كالتمثال أو جماد كالدولاب أو القدح المنقوش.
هذه أمثلة من المقاييس التي ندين بها في نقد الشعر وتقدير الشعراء. . .
فعلى أي وجه تجوز المخالفة فيها؟
لا تجوز المخالفة فيها إلا على وجه من وجهين:
فإما أن يقول القائل إن هذه المقاييس باطلة في جملتها وتفصيلها، وإن الشعر قد يكون من طراز الشعر الرفيع وهو لا يعطينا مزية إنسانية بمعزل عن رنين الأوزان وطلاوة الألفاظ، ولا يعبر لنا عن نفس صاحبه ودخيلة حياته، ولا تتماسك قصائده تماسك البنية الحية التي تستعصي على التقديم والتأخير.
فإن قال القائل هذا فهو وشأنه فيما يراه، والناس وشأنهم في الأخذ بما رآه.
أما إذا قبل تلك المقاييس وارتضاها فليس له غير وجه واحد للمخالفة فيما قدمناه، وذاك أن يقول إن المقاييس صحيحة ولكنها تنطبق على شعر المدرسة الشوقية وما جرى مجراها.
ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يستخلص من دواوين شوقي صورة صادقة له كالصورة التي