فتهيأت لهم أسباب التفوق، وتعددت في القصة مذاهبهم وأساليب تعبيرهم، واتضحت هذه المذاهب واستقرت، وطوعت هذه الأساليب وأساس قيادها.
كان على كتاب القصة أن يخلقوا وسيلة بها يتكلمون ولكن على ألا يفطن إلى ما يريدون المنصتون من الحكام والرقباء، وكانت القصة في ذاتها كعمل فني خير معين لهم على ذلك ولكنهم أضافوا إليها ما أضافوا من صور الوصف فأبدعوا تصوير ما كانوا يريدون تصويره من مشاهد الحياة وآلامها، وألوان العواطف الإنسانية وخلجاتها؛ ولقد أدى بهم هذا إلى أن يسلكوا وإن لم يقصدوا مذهب الفن للفن، فلم يدعوا إلى شيء إيجابي أو يقترحوا علاجاً لداء؛ وإنما اكتفوا أو اضطروا في الحق أن يكتفوا بتصوير الحياة الروسية كما هي بما فيها من خير وشر، ومن هنا كذلك كان المذهب الواقي هو الغالب في القصة الروسية.
وكان هذا الوصف أعلى في الآذان صوتاً وأعمق في النفوس أثراً من كافة صورة التعبير التي أتيحت لغير الروس، من فلسفة ومقالة ومحاضرة وبحث، وتلك هي ميزة الفن وبخاصةً فن القصة وقد بلغت أقصى ما يبلغه فن كأداة للتعبير على أيدي أساطين القصة الروسية.
وثمة صفة أخرى للقصة الروسية، وتلك هي انطواؤها على كثير من النذر، ويشاركها في ذلك الشعر إلى حد كبير، حتى ليمكن القول إن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر كان أكثر من أدب أية أمة تنبؤا بالمستقبل المخيف؛ بل لعل هذا التنبؤ هو خاصته التي مازته من غيره فهو نذير للناس بالهول والبلاء والشر المستطير، وقل أن كان بشيراً بشيء إلا بما يفهم مما يتضمنه هذا الشر المنتظر من معنى الثورة التي تذهب بالمساوئ القائمة وتفتتح في تاريخ البلاد عهداً جديداً. . .
ولقد كان الأدب الروسي في الواقع لهذه العوامل المحيطة به أدباً تأثراً؛ لا بما كان ينذر به من هول فحسب ولكن من هدوئه كان متنفساً للنفوس مما كانت تنطوي عليه من ثورة، أو كان شكاة وأنيناً أو (صرخات من فوق خشبة الصلب).
والفرق واضح بين هذا الأدب الروسي وبين أدب فرنسا قبيل ثورتها الكبرى على أيدي فلتير وروسو ودبدرو وإضرابهم فقد تفلسف أولئك الفرنسيون وسخروا وبينوا سبل الخلاص وواجهوا المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية مواجهة مباشرة فكانوا في