والمكان. ولكننا نستطيع، من وجهة أخرى، لا أن نتصورهما مستقلين عن التجربة تصوراً مجرداً فحسب، بل وأن ندركهما بالعيان المباشر. ومن أجل ذلك يعتبرهما شوبنهاور صنفاً مخصوصاً من أصناف الموضوعات. ومبدأ الوجود في الزمان هو (التوالي)، ومبدأ الوجود في المكان هو (الوضع). كل لحظة من الزمان تتعين باللحظة السابقة، وتعين اللحظة اللاحقة. ومواضع المكان يعين بعضها بعضاً بالتبادل. والإضافات (أي العلاقات) المكانية هي موضوع علم الهندسة، والإضافات الزمانية موضوع علم الحساب. وكل هذه الإضافات تدرك، أول ما تدرك، بالعيان الخالص، لا بالتصور والبرهان.
مبدأ العقل:
أو مبدأ البواعث أو الباعثية. وقد كنا - في كلامنا على مبدأ العلية - عددنا الباعث من أنواع العلل الثلاثة. ولكننا كنا عندئذ ننظر إلى العلية من الخارج. فإذا تأملنا الآن في أحوالنا الباطنة، وجدنا أن أفعالنا الإرادية أو مشيئاتنا تتعين بالأسباب التي ندعوها (البواعث). وقد وصف شوبنهاور قانون الباعثية (بأنه العلة مرئية من الداخل)، وعن طريقه يتم الانتقال من عالم الظواهر إلى الشيء في ذاته، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا.
والمبدأ الأول من مبادئ السبب الكافي هو المبدأ الفيزياوي، والمبدأ الثاني هو المبدأ المنطقي، والثالث هو المبدأ الرياضي، والرابع هو المبدأ الأخلاقي. وهذا معناه أن (الضرورة) المطلقة تعمم عالم الظواهر؛ في صورة الضرورة الفيزياوية، والمنطقية، والرياضية، والأخلاقية. والفرد الإنساني ظاهرة بين الظواهر، فهو إذن خاضع خضوعاً تاماً للضرورة السببية الجبرية، ولا حرية له بهذا الاعتبار.
وكل مبدأ من هذه المبادئ لأربعة، أو بالأحرى كل (شكل) من أشكال هذا المبدأ الواحد، مبدأ السبب الكافي، يعبر كما قلنا آنفاً عن طبيعة الموضوعات الخاضعة له. فمبدأ الوجود في الزمان الخالص هو (التعاقب) أو (التوالي)، وليس الزمان شيئاً سوى هذه الرابطة. ومبدأ الوجود في المكان الخالص هو (الوضع)، وليس المكان في جوهره سوى (الوضع) والعلية هي الرابطة التي تسود موضوعات الإدراك الحسي، التي تملأ المكان والزمان، وتؤلف العالم المرئي، عالم المادة. فإذا سألنا: ما طبيعة المادة؟ فالجواب أن (المادة) ليست في جوهرها سوى العلية. كيان المادة كله هو الفعل، والفعل هو العلية، فالمادة علة