إن تلك الدول التي صارت دولا في تاريخ هذه الحضارة البربرية وبمعونتها تريدنا على أشياء وتريد بنا أشياء لابد لكل عربي أن يراها بعين لا تغفل. هذه الدول التي ادعت ولا تزال تدعي أنها خاضت غمار الحرب المبيدة الثانية دفاعاً عن حرية البشر في الحياة، وعن رفع مستوى المعيشة في هذه الأرض، ترتكب كل يوم من ضروب الخيانات والغدر والنذالة ما لم يشهد التاريخ مثله، كما لم يشهد مثل حضارتها هذه البربرية. .
هذه أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا جميعاً ولا نستثني تزعم كل يوم أنها تغضب للحق، حق الناس في الحرية، وتثور استنكاراً للمظالم التي تفرض على الشعوب العاجزة عن دفع الظلم، وأنها تحوط لإنسانية من أن يدنسها باغ أو طاغ بجبروته وبطشه، وهي جميعاً لا تزال تملأ جنبات الأرض عجيباً وضجيجاً إذا رأت ضيما أصاب شعباً من الشعوب، وتتنبل كل منها بالدفاع عنه وبالذياد عن حقه المهتضم، ونرى أمريكا خاصة ومن دونها جميعاً تذيع بين الناس وتشيع أنها حامية الحضارة، وأنها حامية الناس من البغي، وإنها لم تخض غمار الحرب إلا لهذا وحده: أن تحمي الحضارة من الدمار، وأن تحمي الناس على اختلافهم من البغي. وكذلك تفعل بريطانيا أيضاً، وهكذا تزعم روسيا، وهكذا تتبجح فرنسا.
ولكن - هذه فلسطين فلذة أكباد العرب قد شهدت أنذال الأمم يطئون ديارها منذ سكنت الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها سيلا منذ ذلك اليوم يريدون أن يجلوا العرب عن بلادها ليحتلوها وينشئوا في ربوعها دولية يهودية، فإذا بنا نرى أمريكا تعينها بالمال واللسان والقلب، ونرى بريطانيا تغريهم بما يريدون وتصبر على إذلالهم لها صبراً لم يعرفه قط تاريخ بريطانيا التي كانت تسمى رجال العرب المجاهدين (رجال العصابات)، ونرى روسيا وفرنسا تلوذان بالصمت المطبق لا تقول ولا تنبس ولا تتحرك دفاعاً عن الهضيمة التي تراد بالإنسانية، كما تحركت من قبل.
وهذه تونس والجزائر ومراكش تجري فيها المذابح الوحشية التي لم يعرف التاريخ مثلها. فتسيل دماء أربعين ألف عربي ما بين عشية وضحاها، بين سمع سفراء الدول وبصرها، فلا نرى أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا تثور أو تغضب أو تقول، وتمضي فرنسا الباغية تنفذ سياستها في تدمير شعوب برمتها. تدمر حضارتها وماضيها وقواها وتستل الأرواح من أبدانها بالسلاح غدراً وغيلة، وتمتهن الرجال وتسب الأديان وتفتك بالأحرار، ويرى ذلك