للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من ذهنه ما يمر به كل يوم من مقروءات والمرئيات والمسموعات فلو وضع مكان هذا الباطل علما خالصا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.

أعرف نادلا كان في (قهوة فاروق) في الشام اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شايا أو كازوزة أو ليمونا، والقهوة حلوة ومرة، والشاي احمر واخضر والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويرد هذه الطلبات جهرا في نفس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفا!

فيا سادة، إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن يشاء إن يسعد.

وملاك الأمر كله ورأسه الأيمان، الأيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويسلي المحزون، ويقوي الضعيف، ويسخي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسا، ومن خيبته نجحا.

وأن تنظر إلى من هو دونك، فانك مهما قل مرتبك، وساءت حالك، احسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهما وعلما، وحسبا ونسبا، وأنت احسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا ملكي الأرض. فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبا يحشوها ويلبسها الذهب، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة. وكانا يرحلا من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات.

فيا أيها السادة السيدات.

إنكم سعداء ولكنكم لا تدرون. سعداء أن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.

أكمل الله عليكم سعادتكم، وأسعد الله مساءكم، والسلام عليكم.

(القاهرة)

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>