للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إني لأكتب هذا الحديث والله، في محطة (باب اللوق) وإذا انتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك علي من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو إني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا اقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها، لربحت شيئا كثيرا، ولقد كان صديقنا الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للأمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب، والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائما، حتى انه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئا من العلم فألف (الحاشية). والسرخسي أملى وهو محبوس في الجب، كتابه المبسوط، أجل كتب الفقه في الدنيا، وأنا اعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يضيق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا إنه لو قرأ مثله لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة لكان علامة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتابا واحدا كنهاية الأرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحدمنكم أن يصبر على قراءته كله ونسخة مرة واحدة بخطة فضلا عن تأليف مثله من عنده؟

والذهن البشري، أليس ثروة؟ آماله ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل لو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا اذكر الفلاسفة والمخترعين. ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم، هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطها وصوابها. والشافعي لما كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه. والمعري لما سمع أرمنيين يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلاهما وهو لا يفهمه. والأصمعي الذي وحماد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار. وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار. والمئات من أمثال هؤلاء. . . فتعجبون، ولو فكرتكم في أنفسكم لرأيتم إنكم قادرون على مثل هذا ولكنكم لا تفعلون.

انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان، والصحف والمجلات، والأغاني والنكات، والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروى من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل

<<  <  ج:
ص:  >  >>