عنا ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متشحة بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيا؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، والمال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يؤتى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئا، لما نظر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيا؟
فلماذا لا تقدرون ثمن الصحة؟ أما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من انفه بأموال عبود باشا؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعا وعطشا، لما رأى غدير ماء والى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس بأمل أن يجد فيه تمرا أو خبزا يابسا، فلما رأى ما فيه، ارتد يائسا، وسقط إعياء. لقد رآه مملوءا بالذهب!
وذاك الذي رأى مثل ليلة القدر، فزعموا إنه سال ربه أن كل ما مسته يده ذهبا، واستجبت دعوته، فلمس الحصى فصار ذهبا، ولمس الخشب فصار ذهبا، فكاد يجن من فرحته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل فمس الطعام فصار ذهبا، وبقى جائعا، وأقبلت بنته تواسيه فعانقها فصارت ذهبا. . . فقعد يبكى يسال ربه أن يعيد إليه ابنته وسفرته وان يبعد عنه الذهب.
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة فأنصفق عليه بابها فمات غريقا في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وانتم تملكون ذهبا كثيرا؟ أليس البصر من ذهب والصحة من ذهب والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلفتني المحطة بهذه الأحاديث الأربعة من شهر، فما زلت أماطل بها، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا انتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبقى إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت انتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوما، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرا وتبرا، واستفدت من كل لحظة حتى