مطاوي كلامه قبسا من الحكمة. والحكمة من أقوى أداة الكاتب والشاعر
ولقد كان برافعي خيال بعيد ينفذ به إلي أقطار المباني الدقيقة فيستوحي منها الدرر، ويحلق في أجواء التصورات البعيدة فيستنزل منها الغرر
ولا نقول هذا مجاملة له رحمه الله، ولا يدفعنا إليه تشييع لما كان بيني وبينه من أواصر الصداقة والمودة، وإنما هو الحق والأنصاف.
وقد كان الرافعي أستاذ مدرسة خاصة في الأدب والكتابة، وكان في الأخلاق الكريمة والتمسك بآداب الإسلام ومجد العرب أمة واحدة، لا يعنيه شيء في الحياة إلا أن يحرس لغة القران ويحافظ على أساليبها، ويبعث من تراثها، ثم كان لا يفتأ يعمل على أحياء الآداب الإسلامية والأخلاق الدينية، حتى ينشأ هذا الجيل محبته لغته ودرس فنونها والتمرس بآدابها ثم يأخذ بأخلاق دينه وصالح عاداته. إذ كان يستيقن رحمه الله - وهو على حق - إن الأمة لا تنهض إلا باستمساكها بأصول لغتها وكريم أخلاقها، ثم لها بعد ذلك أن تأخذ من العلوم والفنون النافعة في الحياة ما شاءت وشاء لها نظام العمران
ولما انبعثت فتنة (التجديد والمجددين) منذ اكثر من ثلث قرن وكان أهلها يحاولون أن تكون الكتابة (باللغة العامية) وان نهجر أدبنا القديم وتراثنا التليد كان هو أول من نازل دعاتها وظل وحده يناضل ويصول حتى كتب له النصر وخرجت الأساليب العربية الصحيحة ظافرة تشرق على أسلات الأقلام
وما كانت هذه الفتنة لإصلاح يراد ولا كانت لتطور معتدل وإنما كانت ترمي إلي غرض بعيد؛ ذلك إن القضاء على البلاغة العربية يؤدي لا جرم القران وعدم فهمه وبذلك يصبح هذا الكتاب المقدس للغة العربية كاللاتينية للغات الأوربية؛ ومتى صار القران كذلك فقل على الإسلام العفاء.
وظل رحمه الله رابضا متحفزا يحمي ذمار العربية ويذود عن حوضها إلى إن انقلب إلى ربه
وإني لأشهد انه كان يتحرق على ما وصلنا إليه من ضعف في الأدب، وانحلال في الخلق، ويود لو تتاح له الفرصة ليطلع على الناس في كل أسبوع بمقال في إحدى الصحف يؤدي فيه شيئا من رسالته حتى سنحت له فرصة الكتابة بمجلة الرسالة الغراء وارتقى منبرها