ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزرافات ونعام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله، تسمن وتخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً.
ووقف ونهق لها يحييها فترفعت عنه، وتألمت من تطاوله عليها، ومدت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها القصيرة، ولوحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، أنه يظنه يسأل صدقة، أو يطلب إحساناً، أو الشرطي حين يلقى البائع السيار من أهل بلده، وترجمان المستشار حين كان يقابل واحداً من بنى قومه. . .
فلما رأى ذلك منها، بصق ومشي يلعن الحظ الذي جعل (الحمير. . .) سادة، وأقام (الناس) لهم خدما وخولا وبكى على خلائق الجنس (الحماري)، لقد ضاعت تلك الخلائق، وهبطنا حتى صرنا مثل بنى أدم، لا نعرف أقدار أنفسنا ولا أقدار إخواننا.
وجعلت أعاود الحديقة، وأكرر زيارتها، فأرى هذه الحمير محشورة في الزريبة، تأكل وتشرب، وتتعجب لماذا لا يقف عليها أحد! إنها لا تلعب لعب القردة، ولا تغنى غناء البلابل، ولا تملك هيبة السبع، ولا ضخامة الفيل، ولكن لها فنها وجمالها، وما الفرق بينها وبينها، ألا يقرأ الناس لأدعياء الرمزية ولصقاء الأدب، ولصوص البيان، كما يقرئون لأئمة البلاغة، وملوك الكلام؟ ولكن هذه (الفلسفة) لم تقنع أحداً فظل الناس معرضين عنها، لا يحفلون بها. وماذا يبتغون منها؟ وهل قلت الحمير حتى ما تشاهد إلا بقرش صاغ؟ إن الحمار يبقى حماراً ولو وضعته في القصور، وأركبته السيارات، وكسوته الحرير، وأطعمته الفستق المقشر. . .