هذا العالم الذي يجري تحت الأرض! وعبر بوجدان بابا وتوقف قطار كهربائي يحمل معه صوتاً أشبه بصوت الرعد. ثم فتح أبوابه وألقى إلى خارجه جموعا إنسانية أخرى وفي نفس اللحظة أغلق باب الافريز صاداً عن المرور تيريز التي كانت تجاهد الزحام بكل قواها دون جدوى؛ فاضطرت أن تنتظر على السلم مع مئات غيرها. وأصابها الذعر حين رأت بوجدان مدفوعا بمجهود نافد الصبر يدخل عربة القطار دون أن ينظر حوله. فصرخت صرخة تمزق القلب (بوجدان! بوجدان!) وفي نفس الوقت أغلقت جميع أبواب القطار ثم دوى صوت صفارة تبعها في الحال تحرك القطار الذي انزلق كالسهم في النفق الأسود المظلم.
بقيت تيريز وحدها يحيط بها جمهور متباين الوجوه، يتكلم لغة لا تفهمها، وامتلأ الرصيف بالخلق يضحكون ويمزحون ولا يأبه أحد لها. ووصل قطار جديد يشبه تماما ذلك الذي ركبه بوجدان منذ دقيقتين وفغرت الأبواب أفواهها واندفعت الجموع. ما العمل؟ هل تنتظر؟ هل تتبع الجموع في يسرها؟ وبغير وعي انساقت تيريز مع الحشود الإنسانية في طريقها كما فعل بوجدان. وبدأت رحلتها في أنحاء باريس تحت الأرض دون أن تعرف إلى أين تذهب. كانت واقفة وسط عربة القطار الذي يخترق الظلام نحو المجهول. أين بوجدان؟ هل هناك أمل في العثور عليه؟ وتملكها الخوف. إلى أين يقودها ذلك القطار الذي يجري في الظلام كالصاعقة، ودار رأسها ولم تعد تستطيع احتمال هذا القلق وهذه الوحدة. ووقف القطار فنزلت منه كمجنونة وسارت يدفعها هذا ويرتطم بها ذاك صاعدة سلما لا ينتهي. ثم أنعشها هواء ناعم ووضحت أمامها الوجوه وعادت إليها الحرية. كانت لا تصدق عينيها. أهي في حلم؟ ما هذه الأضواء العديدة الصارخة؟ ما هذه الموسيقى؟ وجدت نفسها في شارع على جانبيه منازل عالية. تصطف تحتها المطاعم والمقاهي الزاهية بالأنوار. المكتظة بالناس المرحين في ثياب العيد.
ماذا يريد منها هذا الشاب؟ لقد مس ذراعها فرفعت رأسها ونظرت إليه بدهشة أضحكته. إنه يتكلم تلك اللغة الأجنبية. ولاحظت أن صوته ناعم رقيق برغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما تفوه به، وهزت رأسها وافتر ثغرها عن ابتسامة اعتذار أضاءت وجهها المبلل بالدموع. وأدرك (رونيه) أنها جميلة وهو ينظر إلى خصلة الشعر الذهبية التي تبرز من