للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تحت المنديل الذي يمتص شعرها. وأدرك أنها أجنبية وربما كانت ألمانية. لقد تعلم بضع كلمات ألمانية أثناء اعتقاله مدة الحرب فجمع شتات ذاكرته ووجه إليها عبارة صغيرة آتت ثمرها فقد كانت في وطنها بولونيا تعيش قرب الحدود الألمانية. ما أسعد أن يجد المرء في هذه البلدة القريبة شخصاً يركن إليه ويضع فيه ثقته! لقد فتحت له قلبها وقصت عليه كيف أن والديها لم يقبلا الإنصات إلى حديثها عن بوجدان فهربت معه إلى خارج وطنها، وكيف أنها قدمت فرنسا تبحث عن عمل. وكيف فقدته في محطة المترو وهي قاب قوسين أو أدنى من هدفها. كان يجب أن تأكل الفتاة شيئاً لتسترد قواها فذهبا إلى أحد المطاعم المحيطة بهما وجلسا في الشرفة يحيط بهما جمهور كبير يأكل أشهى الطعام ويشرب أفخر الشراب، كانت تيريز قد جففت دموعها ولكنها كانت خجلة من ملابسها المتواضعة وسط هذا الجمع المتأنق الفاتن، لقد أخذ بوجدان معه جميع ملابسها ونقودها. كانت تنظر إلى رونيه مذهولة لفرط ظرفه ورقته اللذين لم تر لهما نظيراً. وأراد رونيه أن يهدئ من روعها ويرفه عنها فقال:

هذه هي مونمارتر، هي من أبهى أحياء باريس، واليوم يوم عيد. إنك سعيدة الحظ بوصولك إلى باريس في هذا اليوم. يوم ١٤ يوليو. انظري كيف يضحك الناس وكيف يرقصون. إنها ليلة الحرية.

واستحوذت على تيريز عاطفة جديدة. عاطفة حب الحياة. وتملكها رغبة في الاستقلال والتحرر ولم تشعر طول حياتها بمثلها، كانت كأنها تريد أن تقبل كل هذه الجماهير التي لا تعرفها.

ومرت الشهور والأعوام ولم يعد بوجدان جاورونسكي. لقد اشتغل عاملا في المناجم في بلدة مارل لي مين بإقليم بادوكاليه، وكان إذا ما حل المساء وذهب إلى الحانة وأمامه كأس النبيذ قص على رفاقه ذلك الحادث الغريب الذي فقد به تيريز في المترو يوم وصولهما إلى باريس وأن بحثه عنها ذهب كله أدراج الرياح فلم يرها منذ ذلك اليوم. كان يقول:

لقد تبعتني مغلقة العينين. كانت طوع بناني. مطلقة الثقة بي. وهذا ما يجعل الأمر مرعباً. لم يكن معها فلس واحد. كان معي كل أوراقها، وكل ملابسها.

وأجاب عامل كان النبيذ قد أدفأه قليلا:

نعم! وباريس مدينة خطرة! لا ترقب الخير لفتاتك!

<<  <  ج:
ص:  >  >>