لقد جبت كل مكان في باريس. لم أترك شارعاً ولا ميداناً لم ابحث فيه. وبعد بضعة أيام ابتدأت تنفذ نقودي وتتلف أحذيتي ولم يكن لدى أصدقائي عمل يعهدون إلي به. وكانت المشكلة الكبرى مشكلة اللغة وعندئذ جمعت ما تبقى معي من النقود وسافرت إلى مارل مع رفيقين، وما بقس بعد ذلك تعرفونه.
ومر الزمان وبوجدان يعيش في مارل لي مين، يحيا حياة العزلة والهدوء لا يشرب كثيراً ولا يمرح إلا قليلا. كان لا يعبأ بأي شئ منذ فقد تيريز. وإذا كانت ذكراها لا تفارقه وطيفها لا يبرح خياله، فإنه كان يذهب بين وقت وآخر إلى المنزل رقم ١٣ حيث تقيم بائعات اللذة؛ وإن مغامرته مع (ألين) لا دخل فيها للهوى والغرام لقد كانت سيئة الخلق ولكنها كانت تصلح له جواربه. كان لا يحب غير تيريز. كان يعرف ذلك ويعرف أنه لن يحب غيرها. ومن أجلها يتحمل هذه الحياة المريرة الخطرة في المنجم. من أجلها يدخر النقود. إذ سوف يراها يوماً من الأيام ولا يريد أن يبدو أمامها بمظهر المتسول. سوف يقدم إليها أوفر الاعتذار فقد وهبته كل شئ وأساء هو استخدام ما منحته إياه من ثقة. سيبحث دون ملل أو وهن.
في ذلك الوقت كانت تيريز تحيا حياة دعة في باريس. كانت منذ وقت طويل زوجة رونيه ولها منه طفلان: جورج وأخته الصغيرة اتينيت. ومع ذلك لم تنس الليلة الرهيبة، وهل يمكن أن تنساها؟ هل للسعادة أو الراحة أن تمحو هذه الذكرى الدفينة؟ كانت تيريز دائماً مع رونيه زوجة أو على الأصح صديقة مخلصة، ولو أن ذلك لم يكن بالأمر الهين. كان واجباً عليها قبل كل شئ أن تنسى عاداتها وأن تكتسب عادات جديدة وأن تتعلم لغة أجنبية. وسرعان ما أصبحت الفتاة القادمة من صميم الريف باريسية بغير صعوبة. كان ذلك واجباً بعد أن قطع عليها سبيل التقهقر. فقد ولى بوجدان وفصل بينهما وبين منزل والديها. فوالدها لن يغتفر لها هربها. وقريتها تضمر لها السخط والحنق.
وعاشت تيريز نموذجاً للزوجة المقتصدة المدبرة. كانت أكبر عون لزوجها، تساعده في كل أعماله حتى صارا يأملان بأن يكون لديهما بعد ست سنوات سيارة. وبعد عشرين سنة منزل صغير ذو حديقة تقوم هي بزرع الخضراوات فيها كما كانت تفعل في أوائل شبابها