للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قبل تلك الساعة الرهيبة التي جعلت من حياتها حياتين مختلفتين تماماً.

ومرت عشر سنين منذ الفراق الاضطراري وتيريز تحتفظ دائماً بسر غريب. وفي بعض الأيام تدفعها قوة داخلية إلى الاقتراب - دون أن يعلم أحد - من المكان الذي اختفى فيه صديقها فجأة. كانت تقاوم هذه القوة المجنونة بكثير من الفوز أحياناً. بيد أنها كثيراً ما كانت تضعف وعندئذ تقفز إلى أول سيارة تصادفها مسرعة إلى محطة الشرق كمسافرة كاد يفوتها القطار. فتعبر الردهة الواسعة - باحثة في كل مكان على مقربة من السلم المشئوم. وتنتظر صابرة رغم أنها واثقة من أنه سوف لا يأتي أيضاً هذه المرة كما فعل في المرات السابقة. وفجأة تفيق من جنونها وتعود إلى الواقع. فتقفل راجعة إلى منزلها يغمرها الخجل.

وفي ذات ليلة من ليالي الصيف الحارة عاودتها (الأزمة) كما كانت تسميها بصورة قوية جارفة لم تعهد مثلها من قبل. أحست بأنها تكاد تختنق. بأنه ينتظرها. وأنها ليست مخدوعة هذه المرة فعليها أن تهرول إليه. نزلت إلى الشارع وكان الليل قد أسدل أستاره واتجهت إلى محطة المترو المجاورة للمنزل مخترقة الجموع كمجنونة. ووصلت إلى محطة الشرق. أين هو؟ هل تبحث عنه على الأفاريز الداخلية أم عند شباك التذاكر كما فعلت مراراً دون جدوى؟ وارتبكت عيناها وصعبت عليها الرؤية وظلت هكذا نصف ساعة يدفعها المارون من كل جانب وتخنقها أحاديثهم وأنفاسهم الساخنة. وبلغ ذعرها أوجه حين سمعت صوتاً يناديها وشيئاً يمسك بذراعها. كانت أصابع من حديد! من يكون هذا الوقح؟ واستدارت بسرعة فرأت بوجدان. هل هو حقاً؟ وغشى عينيها حجاب قاتم السواد. وصرخت

وعندما عادت إلى رشدها وجدت نفسها مستلقية على أريكة من القطيفة الحمراء. لقد حملها بوجدان إلى مقهى صغير أمام المحطة. كانت القاعة ذات المرايا العديدة خالية من الناس إذ جلسوا جميعاً في الشرفة يستنشقون الهواء الرطب. وبلل بوجدان جبهة تيريز بالماء البارد وطلب لها فنجاناً من القهوة. وأخيراً فتحت تيريز عينيها ونظر إليها متأملا. وانفرجت شفتاه بحركة عصبية فلمعت أسنانه الكبيرة تحت شاربه. لم تغيره السنون. أما هي فقد أصبحت شيئاً آخر، لقد أصبحت سيدة وقورة حسنة الهندام. كان ينظر إليها معجبا بقبعتها المصنوعة من الخوص الأزرق التي تطفر من تحتها خصلة من الشعر الأصفر الذهبي. وبسترتها الجميلة وقفازها الجلدي وجوربها الحريري الشفاف وحذائها اللامع. من الذي

<<  <  ج:
ص:  >  >>