أي والله! ولقد روحت عني هذه الملاحظة كثيرا من العناء، وسرى في جسمي ما يسري عندما اخرج من عملي مكدود الذهن، كليل الخاطر، فاقرأ قصيدة للمتنبي أو مقطوعة لشوقي بك رحمهما الله!
على أني بين مشاغل المادة من مرور وفحص وإرشاد، وبين متعة الأدب الذي خبرت فذكرت، لم أزل بين القطن، ولم اعد الحقل وفيه ريان، وذكرت قول شوقي بك في (باريس):
إن كنتِ للشهوات رياً فالعلى ... شهواتهن مُروَيات فيك
ولطالما عز القطن وعز معه زارعوه، فلم تكن تسمع بيننا إلا تنويها بذكره، وتدليلا لاسمه، ففاز من أدب الزراعة بأقشب الأثواب، وأجذب الأسماء والاشارات، فدعى (بذي العين البيضاء) وسمى (أبا الذهب).
حتى إذا دهمت الأزمة، وحلت الكارثة، في سنة ١٩٣١ بتدهور اسعاره، لم يبخل عليه أدب الزراعة (بذي القلب الأسود) فإذا تساءلت دهشا أو أنكرت عدم الوفاء لمن سبقت على الفلاح نعمه!! قيل لك: أو ليس بذوره سوداء حقا؟ أو ليست تقع من (اللوزة) في الصميم؟.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيء الزنابير
ألم ترى إلى حقل القطن في أواسط شهر أكتوبر، وقد كادت تجف سوقه وقد اشتد سواد لونها، ودنت قطوفها بيضاء تحلى عاطله وتلين من وحشة جفافه. أليست الأولى أشبه بالليل، جاءته الثانية نجوما ذات لألاء تخفف من قساوة ظلمائه، منتشرة بين أعاليه وأسافله وأواسطه هدى للساري.
فإذا حان القطاف، وانتشر في الحقل الصغار يجمعون ثمار عمل طويل الأمد، عوضوا من شدة السوق وآذاها طراوة القطوف لينة طيعة في بياض ناصع خلال سواد قاتم.
يمزج الوصل بالصدود وياما ... أعذب الوصل من خلال الصدود!
فإذا انتهى اليوم وقاربت الشمس المغيب، ففي آخر الحقل (الموازين القسط) منصوبة للعاملين، تحدد نتائج أعمالهم. وتحدد لكل ما يستحق من جزاء، ويؤجر الإنسان بقدر عمله. ولقد يمر الصبي وما جمع بأكثر من يد. فهذا ينظر إلى خلو الطقن من طين الأرض، وذاك