للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أهل خلف في المواعيد، وكذب في الأحاديث، وفوضى في المعيشة، لا نحن اتبعنا ديننا، دين الصدق والنظام، ولا نحن قلدنا الأوربيين في فضائلهم؟ ما قلدناهم إلا في الرذائل والموبقات!

لقد دنا المسير، و (رغت) السيارات، فاستنجدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلى واللفظ المعسول، واعتصروا العيون واستمطروها الدمع، فما يحلو بغير الدموع الوداع، وما وصفه شاعر إلا (زعم. . .) أنه بكى، فكأن الشعراء. . . إذا أزمعوا وداعاً وضعوا البصل في عيونهم. . . وإلا فكيف تجود بالدمع عند كل طلب كأنها (حنفيات) الحمام، أو كأنها مقل الحسان؟ وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتد الزحام. ولكن من أين ندخل وهذه السلال والصرر والحقائب بين الأرجل ووسط الممرات؟ وما هذا الضيق في المقاعد؟ هل هي رحلة دقائق من دمشق إلى دمر، أو من مصر إلى المعادي؟ إنها رحلة يوم كامل بليله واكثر نهاره أفنمضيه محبوسين في هذا الصندوق، مقيدين بالأصفاد، لا نستطيع أن تحرك بداً، ولا نمد ساقاً، ولا نتلفت؟ أنقاوم الشركات الأجنبية ونحاربها بمثل هذه السيارات؟

يا قوم إنكم بمثل هذا تجعلون الناس يترضون عن الاجانب، ويلعنون لأجلكم كل شيء وطني!

لقد جرت السيارة وباسم الله مجراها ومرساها، ها هي ذي تخترق شارع فؤاد الأول، وتقطع شارع بغداد أفخم شوارع دمشق وأطولها، الذي فتح من ربع قرن ولم يبين فيه إلا خمس بنايات، لأن البلدية أرادت عمران دمشق، فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء، إلا إذا قامت حرب عالمية ثالثة، وصار كل الشاميين لصوصاً أي (أغنياء حرب). . .

لقد بلغنا (جسر تورا) فودعوا دمشق بنظرة أودعوها حبة القلب، وقراره اللب، فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق، واين؟ اين مثل فتونها وسحرها؟ وأين مثل تقاها وطهرها؟ أين قبة تنطح النجم كقبتها؟ أين في الأرض غوطة كغوطتها؟ اين نهر يسيل شعراً وذهباً كبرداها؟ أين مثل ربوتها وشاذرانها ومزتها وميزانها؟ أين في الدنيا ربيع كربيعها، وزهر كزهرها، وثمر كثمرها، وكروم ككرومها؟

تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً وفي غربتكم آنسا. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>