هذه (دوما) قصبة الغوطة فيها خمسة وعشرون ألف ساكن قل فيهم من يتفرغ للعناية بدار لذلك ترون دورهم زرية منخفضة السقوف، ضيقة الابواب، وقل فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم، ما لهم هم إلا الزراعة فهم اقدر خلق الله عليها، أصبرهم على مكارمها، لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم، لا لـ (بك) من البكوات، ولا لخواجة من الخواجات، وقل فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت، يعيش بها ولها ويموت عنها، ليس فيهم أسرة يستعبدها الملاك هذا الاستبعاد (الحر). . .
ويظلمها هذا الظلم (القانوني). . . فينظر إليها كما ينظر إلى حميره وأبقاره، ويعاملها معاملتها، فيسكنها في مثل زرائبها، ويطعمها قريباً من طعامها، ولا يراها أعلى قدراً منها، يشغلها السنة كلها تكد وتشقى، لتقدم له ثمن سكرة من سكرانة، أو ليلة (حمراء!) من ليلاته، تريق عرق جباهها على أقدم عشيقاته، وتبذل حياتها ابتغاء مرضاته، ثم لا تنجو من غضباته ونزواته!
أنها أرضهم هم، وهم أصحابها، ولذلك ازدهرت أينعت حتى صارت اجمل أرض في الوجود. فانظروا إليها من حولكم، إلى هذا البحر يموج بالأشجار، تتمايل أغصانها، وتتعانق افنانها، تتوجها إذا جاء الربيع ألوان الزهر، فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى، وتثقلها إذا حل الصيف أنواع الثمار، من المشمش عشرين نوعاً، حبة كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حب الخردل، ومن التفاح أربعين نوعاً، والكمثري عشرين، والعنب خمسين نوعاً معدودة عداً، والدراق والخوخ والجانرك والسفرجل والجوز واللوز والتين والزيتون أنواع شتى وأشكال، وإلى السواقي تسعى فيها تحمل الحياة من بردي إلى هذه الأرض المباركة، يميد على حوا فيها الحور ويرقص الصفصاف، وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثاء والخيار، وتضحك من حولها حقوق القمح، ومزارع (الخضار. . .).
هذه هي الغوطة: بستان واحد، مساحته اكثر من ثلاثمائة مليون متر مربع، متصل الظلال، متلافي الاغصان، كل شبر منه ثروة وجمال، وكنز لا ينفد على الإنفاق.
لقد جازت (السيارة) دوما، فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها، كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين، قريعي الدهر حليفي الخلود: قبة النسر من الأموي، وهامة الصخر من