قاسيون. وهذي كروم دوما، يضل البصر في رجاها ويقصر عن مداها، فيها (العنب الدوماني) الذي سارت بذكره الركبان، فمن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز. . .
ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء، فدهشتم وما رأيتم إلا حطبها، فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهي من زهرها، أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهسي من ثمرها؟ إذن لقلتم: لا رب إلا الله، ولا بستان إلا الغوطة!
لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء، ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولا ممرعة، وكان أكثرها منازل عامرة وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال، أيام الملوك الغر العبشمين سادة الدنيا، بني أمية، الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا، فنصبوها على قبة الفلك، ودعموها بالعدل والنبل والفضل، فما كانوا فاتحين كالفاتحين، يغلبون بالقوة، ويملكون بالسطوة، فإن زالوا زالت آثارهم، ولكن كانوا مجاهدين، وكانوا بانين، وكانوا عبقريين، فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة. وكان لهم الفضل على مسلم، في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة، رحمهم الله وغفر لهؤلاء المؤرخين الذين حاولوا أن يتقربوا إلى أعدائهم بإطفاء هذه الشمس التي بهرت العيون، فجمعوا غبار الطرق وجعلوا ينفخونه عليها حتى تمزقت صدورهم، والشمس ساطعة لم تنطفئ، ومن ذا يطفئ نور الشمس في راد الضحى؟
رحمهم الله، فقد جعلوا هذه المدينة لما نزلوها سيدة المدائن، ورفعوا قدرها حتى ذات لها نهاوند ودانت قرطبة وخضعت سمرقند وطأطأت لها القسطنطينية، فأضعنا نحن من بعدهم عزها. أن الأرض تعمر أبدا وبلادنا تمشي إلى الهراب، إنكم ستمرون الليلة على المدينة التي قارعت روما يوم كانت روما عاصمة الأرض، ونازعتها مجدها وسلطانها، فلا ترون في مكانها إلا قرية اسمها (تدمر)، أفرأيتم كيف نمشي إلى الوراء؟ إن ديار الشام التي يسكنها اليوم بساحلها وداخلها، وشمالها وجنوبها، خمسة ملاين كان فيها يوماً من الأيام خمسة وعشرون مليونا. وكان في العراق مدينتان متجاورتان، في كل منها مليونان، وأهل العراق كله اليوم خمسة ملايين. وإن بين هاتين المدينتين اليوم على الطريق جسراً قائماً في الفلاة، كان تحته نهر اسمه دجيل ملأ الشعراء بذكره الأسماع، يسقى مدينة اسمها حربى زخرت بأخبارها صحف التاريخ، فمحيت المدينة وجف النهر ولم يبق إلا جسر قائم في