الفلاة. وكان في البصرة عشرة آلاف قناة، فلم يبق فيها اليوم إلا مائة وثمانون قناة.
نعم لقد عدنا إلى الوراء ولكن عهد التأخر قد انقضى.
لقد وقفت القافلة تجمع شتاتها، وتعد عدتها، لتمشي في طريق المجد كما مشى الأجداد. . .
لقد عرفتنا المصائب في فلسطين والمغرب ومصر والشام، إن الطريق من هنا: إلى المشرق. . . من الشرق يطلع فجر الخلاص، أما الغرب فلا يجئ منه إلا ليل الظلم وسواد الاستعمار. . .
هذه حقيقة تدرس في المدارس الأولية، ولكن في الناس جهلاء لم يتعلموها بعد!
يا إخواننا. أن هذه السفرة ستعلمكم الصبر. إنكم ستتحدثون حتى تملوا الحديث، وتسكتون حتى تكرهوا السكوت، وتأكلون حتى تعافوا الاكل، وتجوعون حتى تشهوا الطعام، وتنامون حتى تشبعوا من المنام، وتستيقظون حتى تتمنوا الهجوع، وانتم محبوسون في هذا الصندوق، مصفدون بالاغلال، فأين هذا من رحلات الأجداد على الإبل، يستمتعون بالحرية والانطلاق والتأمل؟ تقولون إنكم اختصرتم الزمان. . . وماذا اختصار الزمان، إلا الإسراع إلى القبر؟
إنكم تشكون والسيارة تمشي لكم على الطريق الآهلة، وانتم قعود تأكلون وتشربون، ففكروا في بطل الدنيا سيف الله (خالد) وصحبه: كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً، والعدو محيط بهم، فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدوا أرجلهم. . . ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر، وانزعوا منه الظفر، واخذوا منه البلاد، فبقيت خالصة لامة محمد، لن تغدوا لغيرهم أبدا، لا للإنكليز ولو غلبوا عليها حيناً، ولا لليهود، ولا للأمريكان. . . أولئك هم الرجال حقاً!
وبعد فهذي هي الدير، تبدو مناراتها من وراء البادية، كما تبدو الميناء من وراء البحر، فحث المطى يا أيها السائق، واسقها (البنزين)، فقد مل السفر، ونفذ الصبر، واشتد الشوق. . .
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
هذى هي الدير قد وضحت، آفلا تحسون إنكم مقبلون على مدينة عراقية، أليس لمنارتها رشاقة مآذن بغداد، وإن لم يكن لها ثوبها المزركش الذي تخطر فيه، وتاجها الذهبي الذي