واجتمع للوثبة، وإذا هو يضرب يميناً وشمالاً لا يدع للأسبان متنفساً حتى اضطرهم إلى أقبح مواطن الذل تحت قدميه، وأوردهم شرائع العار شلا وطرداً حتى سجدت له تلك الجباه المتغطرسة في حمأة من الضراعة والذل. كانوا يريدون أن يسوموا أهل مراكش أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيت إلا أن تعرفهم أقدارهم تحت هاتين القدمين الطاهرتين النبيلتين، فأتم لك الله النصر عليهم كما شاء.
ثم أراد الله أن يعرفنا ويعرفك من النذل ناصره على نذلته، فهبت إليك تلك الدولة الأخرى المعروفة باسم فرنسا وهي يومئذ ثانية أمم الأرض فألبت عليك جيوشها وجحافلها (وبيناتها)؛ وفزعوا إلى نصرة الأسبان المهزومين، وظلموا يستجيبون عليك، أنت الضعيف الفرد، كل ما آتاهم الله من بسطة في العلم وقوة في البأس، حتى غلبوك على أمرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفوك على عادتهم من فساد الطوية وحقارة الفعل. فأصبح كل عربي على ظهر الأرض يحس أنه الأسير المنفي المغدور قلوبنا على بغض لا ينام لهذه الأمم التي لا شرف لها ولا ذمة ولا عهد.
ثم تقضت الأعوام وشارفت الأربعين، وإذا أنت حر طليق في أرضي وبلادي، فما كدت أسمع ذلك حتى انطوت أيامي وعدت كما كنت في نحو العشرين، شاباً يحس دماءه تغلى لهذا النبأ كأنني انطلقت من الأسر وخرجت من المنفي لأعيش حراً طليقاً كما تعيش أنت اليوم في مصر. ومصر من أهم المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أم الغدر والخيانة، فأننا لن نفارق أخلاقنا وأخلاق آبائنا لكي نعينها على آثامها ومساوئها، بل سنرد عليها بغيها مهما لقينا في ذلك من سوء أخلاقها وقبح فعالها.
ونحن لا نعلم علماً يقيناً ماذا فعلت بك هذه الأمة الحريصة على ابتذال عرضها بين الأمم، أيام كنت في منفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء، أن نعلم أنها حرمت على تلك الألسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرف منطق آبائها وأسلافها، فقد اضطرتها بجبروتها وقسوتها أن تتجافى عن الكلمة العربي التي تمثل للعربي أمجاد أمته في ألفاظ من نور هذه اللغة الشريفة. وسيقولون إنك أنت الذي لأبنائك أن ينشئوا على ذل السان الفرنسي، ولكن كذبوا فما من عربي يطق أن يدع أبناءه الأحرار في اسر لفة أخرى غير اللغة الحرة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم. ولست أشك في أنهم قد اتخذوا لذلك كل وسيلة حتى لم يدعوا