وأيقنت أن في هذه الحفنة من القوة المدخرة ما تسقط معه حجة التكافؤ مع الخصم. فثمة شيء يقال له إيمان وكرامة لا يستقيم معه حساب العدد والعدة. ولكنني تلفت يومذاك أنشد القدوة في هذه الدنيا. تطلعت نحو الترك. . . هذا عظيم. . ولكنه وجد بقايا جيش وأنقاض مملكة، أي وجد مادة الجهاد ميسورة؛ وأما نحن فلا شيء عندنا. وأخيراً لذت بالتاريخ العربي وإذا بي أجده حافلا غزيراً. فهنا خالد، وهناك أبو عبيدة، وهنالك أسامة، وكل شبر من بلادنا ينطق بآثارهم، وأين سرت تقاطع آثارنا آثارهم، فسمعت في ضميري أصواتهم تهيب بي إلى الواجب. وبهذه الحفنة التي احتفنتها من الكنز كنت أثب من قطر عربي إلى قطر عربي آخر، وأكون حيث تقضى النجدة العربية أن أكون. ولطالما قطعت المفازات، واجتزت السباسب، وخضت في لهيب من الصحراء يشوي الوجوه! وطالما وجدتني في متاهات البادية قد استبد بنا العطش، ننشد أثراً ينم على الحياة فلا ماء ولا ظل ولا أنيس إلا هذا القرص الشمسي، ويا له من أنيس، يبعث بالأشعة لتسلق الرؤوس، وما عرفت أن الأشعة ذات ثقل تنوء به المناكب إلا في تلك البوادي، وما عرفناها تأكل الظهور أكلا إلا في تلك الأيام، حتى لكأننا نعيش في أتون يتسعر لظى. . . أما خيولنا، فكانت تقاسمنا الضراء والبأساء. ولطالما مدت أعناقها تنشد ظلا أو ماء! لقد جفت مشافرها وضمرت أجسامها ضمور أجسامنا. وكان الفرسان وهم يسبحون في اللهيب خرساً لا ينبسون بشكوى، ولا يكادون يقتربون بعد ذاك الجهد من مواطن القتال ويزدلفون من ساحة الجلاد حتى تفتر شفاههم وتنبسط أساريرهم وتتردد أهازيجهم. وترى الفارس منهم كما وصفة المتنبي:
قح كأن صهيل الخيل يقذفه ... عن سرجه مرحاً بالفر أو طرباً
ويتبينون في الأفق سواداً عظيما، أنه جيش العدو العرم فما تهن عزائم الحفنة، وإنما تمتد أعينهم امتداد بنادقهم نحو العدو.
ويسود صمت، ليس صمت رهبة، ولكنه إيذان للبنادق بأن تتكلم. ثم تنفجر القنابل فالسماء تمطر ناراً. وتنشب المعركة ويستحر القتال، وأين تطلعت تجد ناراً ولهيباً، وسواداً وغباراً، والمعركة بمن فيها كأنها إعصار فيه نار، وعدتنا هي عدتنا. أما الخصم فقد امتلأت يداه