بأدوات القتال، ومع ذلك لا يلبث أن ينفد صبره، ويرتقب دنو الظلام لينجو بنفسه. وما يكاد الظلام يرخى سدوله حتى يلوذ به، ويتستر وراءه. وتقف رحى المعركة، ونتعقبه، ثم نعود إلى الساحة نتفقد شهدائنا ونحصى قتلاهم. فإذا النسبة بين شهدائنا وقتلاهم، هي النسبة بين عددنا الضئيل، وعددهم الجسيم.
وهنا تنطلق الأنشودة الشعبية التي طالما هزت مشاعرنا:
يا دار لنا ... حقك علينا
وهنا نشعر بأننا قد دفعنا قسطاً من حق الوطن، وأن الجثث المتناثرة في ساحة المعركة هي الإيصال الشرعي. وكم من أقساط دفعناها في ميادين سورية وجبال وفلسطين وبطاح العراق.
وهل الدار إلا الوطن العربي؟ وهل الحق الذي لها علينا إلا الجهاد في سبيل إنقاذها؟
لقد مرت بي الطائرة في سماء فلسطين، ثم أنزلتني في مصر العربية، ورأيت فيها ما رأيت. فما استطعت أن أخاطبها بغير أنشودتنا في المعارك:
يا دار لنا ... حقك علينا
وشاء الزمن المعادي أن يحيينا، فمد الله في العمر، ويممت شطر الشام، البلد العربي السيد المستقل، فما كدت أكحل العين برؤية الراية العربية خفاقة، وما كدت أرى ابتسامة العز ترتسم على أول وجه لقيته حتى نسيت كل ألم أصابني في هذه الدنيا وما عانقت أخاً إلا أحسست أنني أضم إلى صدري هذه الأمة كلها. وماذا كنت أسمع في ساعات اللقاء من إخواني المجاهدين الذين رافقوني في ساحات النضال؟ هذا مجاهد يقول وهو يعانقني لا تنسني هذه المرة، وآخر يقسم إنه منتحر إذا لم يرافقني في معركة فلسطين المقبلة. وهذا شيخ آخر يقول وهو يعانقني: لقد غدوت شيخاً، ولكن لدى ثلاثة أولاد، وهؤلاء سيؤدون الواجب الملقى على، فينوبون عني. . . الأول فتح عينية على أصوات مدافع ميسلون، والثاني خرج إلى هذه البسيطة يوم كانت دمشق تلتهب بنار قنابل الفرنسيين في أوائل الثورة؛ أما الثالث وهو صغير، فقد ولد يوم الجلاء على أصوات الزغاريد وصيحات الابتهاج؛ لقد أحسست وأنا أستمع إلى هذا الشعور أن دينا جديداً وواجباً جديداً ملقيان على كاهلي. . .