والسبب الثاني هو أن الذين أرخوا لثورة الشيخ شامل وذكروا دقائقها، وتتبعوا تفصيلاتها لم يذكروا شيئا عن هذا العون المزعوم. على أنه لو كان حديث هذا العون صحيحا لرأينا شيئا من الحياة والانتعاش في الثورة إبان حرب القرم، ولكن على العكس من ذلك تماما نجد شيئا من الهمود والخمود يعم أرجاء البلاد طول تلك المدة. إذا صرفنا النظر عن بعض الحوادث المتفرقة التي وقعت هنا وهناك في فترات متقطعة. مما لابد من مثله بين فريقين طال أمد القتال بينهما اكثر من خمسة وعشرين عاما.
٨ - لما انتهت حرب القرم، ووقع الروسيين شروط الصلح مع الحلفاء في باريس في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦م و٢٢ رجب سنة ١٢٧٢هـ تفرغوا لقتال شامل، ووجهوا كل همهم للقضاء عليه، وإنهاء حال الثورة في جبال القوقاز التي طال عليها الامد، ولهذا نجد الروسيين يجهزون قوة عسكرية كبيرة مكونة من نحو (٦٠. ٠٠٠) رجل ويرسلونها إلى القوقاز، ثم تتابعت حملاتهم العسكرية بعد ذلك كما نشط جواسيسهم ودعاتهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان إلى جانب الروسيين بما كانوا ينثرونه من الأموال الطائلة. فلما كان أواخر سنة ١٢٧٤هـ. (١٨٥٨م) كان كثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الشيخ شامل، واخذ يقوم ببعض الخدمات للقوات الروسية، كشق الطرق وحراستها وما إلى ذلك، وفي شهر رجب سنة ١٢٧٥هـ (فبراير سنة ١٨٥٩م) جاء الروسيون بقوة كبيرة، وحاصروا شاملا وأنصاره في مقر قيادته في قلعة (بكى درغية).
ضيق الروسيون الحصار على شامل واصحابه، وقاتلوه قتالا شديدا إلا انهم لم ينالوا منه نيلا لحصانة القلعة وشدة دفاع المجاهدين وبعد نحو أربعة اشهر من هذا الحصار تراجع الروسيون وفكوا الحصار عن القلعة ومن فيها، فانتهز الشيخ شامل هذه الفرصة، وخرج مع جميع أصحابه، ونقل كل ما أمكن نقله من المدافع والمهمات والأرزاق، وذهب إلى قرية (ايشجيلي) ورابط فيها إلا أن الروسيين لاحقوه هنا أيضاً، وهاجموه وأحاطوا به، وبعد أن استمر القتال بين الطرفين نحو شهرين اضطر الشيخ شامل - تحت تأثير قلة رجاله وسلاحه الذي بقى لديه - إلى الانسحاب من هنا أيضاً، واتجه بأهله وعياله ومن رافقه من مخلصي أصحابه إلى قلعة (غونيب) الحصينة، وتحصن فيها، كان ذلك في أول المحرم سنة ١٢٧٦هـ (٣١يولية سنة ١٨٥٩م).